عندنا يعودون إلى التنسيق الأمني

عندنا يعودون إلى التنسيق الأمني

03 ديسمبر 2020
+ الخط -

لم يكن مصادفة إعلان السلطة الفلسطينية عودتها إلى مربع التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي؛ مع توفر مزيد من عوامل "التنسيق التطبيعي" ذي الأبعاد التحالفية، بين أنظمةٍ في المنطقة وكيان الاحتلال الاستيطاني، وإن بدت مثل تلك الخطوات مختلفة الدوافع، إلا أنها جميعها يمكن النظر إليها من خلال الإطار العام الذي انطلقت منه ما سُمّيت "صفقة العصر" الترامبية، ومراميها الهادفة إلى تأمين غطاء تحالفي أمني لكيان الاحتلال وحكومته اليمينية المتطرّفة، قبل زوال عهد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وذلك بحجج ومبررات واهية، من قبيل التصدّي للأخطار الماثلة إيرانيا، بتحالفاتها الإقليمية المعادية لدول وشعوب المنطقة، القائمة تحالفاتها على قاعدة العداوة المفترضة مع نظام الملالي وتوابعه في كل من سورية والعراق واليمن ولبنان، ما وضع ويضع المنطقة على حوافّ انفجارات محتملة بين حين وآخر.

ينطلق التنسيق الأمني، كما الوهم التفاوضي، من وهم التحالفات التطبيعية الموازية لزرع بذور استسلام بالإخضاع، لرهاناتٍ ليست بالضرورة صادقة في ما ترنو إليه من أهداف

ينطلق التنسيق الأمني، كما الوهم التفاوضي، من وهم التحالفات التطبيعية الموازية لزرع بذور استسلام بالإخضاع، لرهاناتٍ ليست بالضرورة صادقة في ما ترنو إليه من أهداف لم تعد تتساوق والمشروع الوطني الفلسطيني. وما عودة التنسيق الأمني الذي لم يتوقف أصلا وفصلا سوى عودة إلى عالم الرهانات الخاسرة لدى القيادة الفلسطينية، الضائعة بين وهمي التفاوض الممكن واستعادة الوحدة الوطنية، حيث يكمن الضياع في نقاط عديدة، يغلفها وهم تفاوضي من جهة، ووهم إجراء انتخاباتٍ تبتعد سنوات ضوئية عن مركز الحراك السلطوي الفلسطيني على طرفي الانقسام، غير الجاد بالمطلق لاستعادة وحدة مرجوة للعمل الوطني، تمثّل الشرط الشارط لاستكمال عنصر النجاح الممكن، في ما ينبغي أن تقود إليه أي خطوةٍ ضرورية، في مواجهة حلف الأعداء المتحالفين استيطانيا وتطبيعيا وتنسيقا تآمريا.

من الضروري أن يدرك الوضع الفلسطيني برمته أن ما بلغته جائحة الانقسام الداخلي، وجوائح التطبيع التحالفي القائم اليوم بين العدو وبعض الأشقاء العرب، لن تسمح لحكومة نتنياهو بأن تقدّم أي تسهيلاتٍ ممكنةٍ لمسار التفاوض المستبعد، أو تقديم تنازلاتٍ عما بلغته اتفاقيات أوسلو وتداعياتها، وما زرعته وجذّرته في تربة وضع سلطوي على جانبي الانقسام، لم يعد سهلا عليه الانتقال إلى حالٍ آخر، لا يضمن له سلطانه وسلطاته التي اعتاد على ممارستها طوال فترة الانقسام المدمر، وتبلغ الخشية اليوم لا من تمسّك حكومة الاحتلال بما حقّقه ترامب من مكاسب لتلك الحكومة، بل من تأييد المتحالفين تطبيعيا المكاسب نفسها، طالما أن الأمر لا يعدو أن يكون "أمرا واقعا" دائما، مهما بلغت التغيرات والتحولات في مجريات صراعنا مع الاحتلال الصهيوني، غير القابل للمساومات غير المبدئية أو التسويات الفوقية التي باتت تعتمد قوانين الجهل والتجهيل، والقوة لفرض أمر واقع مستجد.

ماذا عدا مما بدا، حتى يستعاد التنسيق الأمني مع العدو، وكأنه "انتصار" مجلجل!

 

"الطفرة غير المسبوقة" التي حققتها إسرائيل في ما سمّاها نتنياهو "اتفاقات السلام" المزعومة لم تكن بالفعل كذلك، بقدر ما هي اتفاقيات اعتداءٍ على الشعب الفلسطيني وحقوقه في وطنه المحتل، اعتداء يمارسه القاصي والداني، ومن يشاركهما من أهل الدار، عبر تنسيقه الأمني، وتجاهل كل التوافقات والاتفاقات التي توالت فصولا، منذ جرى ترسيخ الانقسام "أمرا واقعا" بالتوازي مع أمر واقع الاحتلال، حتى بات التنسيق الأمني المعادل الموضوعي للتنسيق التحالفي والتطبيعي معه. ولا تختلف أهدافهما لجهة ما تسعى أطرافهما إلى كسب ود العدو القائم بالاحتلال، وإقامة علاقاتٍ معه، على حساب القضية والشعب الفلسطيني والشعوب العربية وحقوقها السيادية والسياسية والإنسانية في أوطانها.

ماذا عدا مما بدا، حتى يستعاد التنسيق الأمني مع العدو، وكأنه "انتصار" مجلجل، ولماذا هذا التهليل الذي جرى لمثل هذا الخزي؟ في وقت يجري فيه التهرب من مسلسل الاتفاقات الوطنية والثنائية بين حركتي فتح وحماس، ويجري تجاهل مقرّرات اجتماع الأمناء العامّين، وكأنها لم تكن، وفي وقتٍ يجري فيه تغريب واستبعاد كل ما كان قريبا يوما ما، بين فصائل العمل الوطني وقوى الحركة الوطنية الفلسطينية؟

كان أحرى بالوضع الوطني الفلسطيني أن يبقى بعيداً عن صراعات المحاور

مثل هذا الطلاق البائن، القائم اليوم في مرحلة مصيرية من مراحل النضال الوطني، وبين ما يفترض أنها القوى المناضلة التي يعول عليها القيام بمهام التحرّر الوطني، لمن تركت تنفيذ تلك المهام، ونحن نعرف أن التنسيق الأمني ومجاراة العدو وأهدافه وأطماعه لا يمكن أن تحقق للشعب الفلسطيني أيا من حقوقه المغتصبة، وأي سلام يمكن أن يتحقّق مع عدوٍّ تتجاوز أطماعه وعدوانيته أرض الوطن الفلسطيني، وما يجاوره من أراضٍ عربية محتلة بعضها بطريقة غير مباشرة؛ من قبيل تنصيب وتقديم الحماية أو ادّعاء ذلك، لسلطات استبداد وطغم أوليغارشية، تقيم حفلات زار احتلالها أوطانها بما يندى له جبين الإنسانية والبشرية، وهي تتشارك مع الاحتلال الصهيوني، بكل وقاحة، الزبائنيات الخيانية التي لا تعرف للوطن أي قيمة؛ سوى قيم المغامرات والمقامرات والصفقات الخاسرة. 

عموما، كان أحرى بالوضع الوطني الفلسطيني أن يبقى بعيدا عن صراعات المحاور، ليمضي إلى هندسة وضعه الوطني، بما يقوّي من مناعاته، بدلا من السقوط بالعودة إلى موجبات التنسيق الأمني مع الاحتلال، في وقت ذهبت كل الاتفاقات الوطنية وقرارات الاجتماعات والمؤسسات الوطنية ومشقاتها سدى، سوى عودة الوضع الوطني نكوصا على أعقابه، باستمرار حال الانقسام وبقائه مُزريا.

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.