عندما يُطالَب قيس سعيّد بالاستقالة
تتالت النداءات الموجهة في تونس إلى الرئيس قيس سعيّد تدعوه إلى التنحّي عن السلطة. لا يتعلق الأمر فقط بجبهة الخلاص الوطني وبقية الأطراف المتّهمة في قضية التآمر على أمن الدولة، وإنما اتسعت الرقعة لتشمل أيضا محمد عبّو الذي كان في طليعة الذين أفتوا للرئيس سعيّد باللجوء إلى تطبيق الفصل 80 الذي بمقتضاه أُطيحت المنظومة السابقة، وفتح الباب لما تسميه المعارضة "انقلاب 25 جويلية" وانفراد سعيّد بسلطات مطلقة. غيّر عبّو رأيه، ولم تعد الأولوية عنده استهداف حركة النهضة، وإنما دعوة قيس سعيّد إلى الاستقالة من أجل "مصلحة تونس ومصلحته".
بناء عليه، وقّع مثقفون وسياسيون ونشطاء في المجتمع المدني وغيرهم على عريضةٍ تدعو الرئيس سعيّد إلى الاستقالة، بسبب "مواقفه العدوانية التي من شأنها أن تخلق مناخاً متشنّجاً تجاه الجميع، وإشاعة أجواء من الريبة والشك"، على حد تقديرهم. واقترحوا، بناء على ذلك، أن تتولّى لاحقاً لجنة من أساتذة القانون والقضاة رسم "خريطة الطريق للمرحلة المقبلة".
لافتٌ للنظر أن هذه الدعوة أصبح يردّدها عديدون داخل البلاد وخارجها. تفتح مواقع التواصل الاجتماعي فتجد عشرات من التونسيين والتونسيات يتحدثون بجرأة كبيرة، ويطالبون رئيسهم بالرحيل، ويقولون إنه غير قادر على تسيير شؤون البلاد والعباد، والأفضل لهم وله التخلي عن الحكم، وعدم جرّ تونس إلى ما لا تُحمد عقباه.
ما حدث في معتمدية مزونة التابعة لولاية سيدي بوزيد كشف المزاج العام لعموم التونسيين في هذه المرحلة، وأحدث رجّة في مختلف الأوساط. لم يكن سقوط سور المدرسة وموت ثلاثة تلاميذ حدثاً عابراً، بقدر ما كان حدثاً أليما نزع الغطاء عن سلطةٍ عاجزةٍ عن حماية شبابها من موتٍ عبثيٍّ لا يمكن تبريرُه. وكان رد فعل المواطنين قوياً وحاسماً، حين نزلوا إلى الشارع، وواجهوا البوليس الذي استعمل معهم القوة لمحاصرتهم، ورفعوا أصواتهم عالياً للمطالبة بإطلاق سراح أبنائهم، وفي مقدّمتهم مدير المدرسة الذي جرى اعتقاله في محاولة من السلطة لتحميله مسؤولية الحادثة، والتضحية به بشكل عبثي. ولم تهدأ نفوس الغاضبين قليلاً إلا بعد تحريره وإعادته إلى بيته. وإذ أكّد أبناء الجهة على أن الحلول الأمنية لا تنفع في معالجة المشكلات الاجتماعية والسياسية، رفضوا التعامل مع الوفود الرسمية، ودعوا الرئيس سعيّد إلى فتح ملفات التنمية التي حُرمت منها مدينتهم. حصلوا على بعض التجاوب، حيث جرى سحب قوات الأمن من الجهة، وتولى الجيش مسؤولية حفظ الأمن، في انتظار ما ستّتخذه السلطة من إجراءات.
كان ما حصل بروفة سلمية لتحرّك احتجاجي مواطني. ويدل ذلك على أن صبر التونسيين قد بدأ ينفد. هم يريدون حلولاً عملية، ولم يعد الكلام الفضفاض يقنعهم. يريدون دولةً تهتم بمشكلاتهم وتضمن لأبنائهم الصحة والدراسة في بيئة آمنة. والذين منحوا أصواتهم لقيس سعيّد في مناسبتين كانوا ينتظرون أن يحقّق لهم ذلك، لكن الأداء جاء ضعيفاً جداً. ورغم اختياره رئيسة حكومة جديدة حتى تنجز ما عجز عنه سابقوها، لم يتغيّر شيء، وهناك أخبار غير مؤكّدة عن رغبتها في التنحّي لأسبابٍ مجهولة، وإذا صحّ هذا، فهو عامل إضافي، يدل عن شللٍ مفزعٍ في الجهاز العصبي للدولة. وإذا أضيف غياب الخطة الاستراتيجية للسلطتين، التنفيذية والتشريعية، اتّضحت العوامل الموضوعية التي جعلت الأحداث العرضية تطغى، وتشغل كل المسؤولين وتستنفد كل طاقاتهم. وكلما اندلعت أزمةٌ، مثل سقوط جدار في مدرسة، توجّهت إليها الأنظار فترة ما إلى أن تغرق البلاد في أزمة جديدة.
لا يمكن لرئيسٍ وحده أن يعالج أوضاع بلدٍ يعاني من أمراض شتى، بعضُها موروثٌ من الماضي، وبعضُها الآخر تضخم وازداد تعقيداً بسبب تراكم الفشل. تونس بحاجة إلى مؤسّساتٍ فعّالة وصلبة، تقودها أهداف واضحة وخطّة مرحلية محكمة وعقول نيّرة. لهذه الأسباب، عاد التونسيون إلى الحديث عن أن أزمة بلاهم هي أزمة قيادة بامتياز.