عندما يكره الناس الديمقراطية..مدخل لفهم حالة تونس

عندما يكره الناس الديمقراطية .. مدخل لفهم الحالة التونسية

09 اغسطس 2021
+ الخط -

في مقالٍ عميق نشراه سنة 2017 في المجلة العلمية المرموقة "حوارات جديدة" (Nouveaux débats)، عنوانه "لماذا يكره الناس سياسيينا إلى هذه الدرجة؟"، يسعى الباحثان الفرنسيان في العلوم السياسية، إيميلايانو قريسمان ونيكولا سوقر، إلى الإجابة عن هذا السؤال الذي يرتبط، حسب اعتقادهما، بسؤال آخر لا يقل خطورة: لما ينقم الناس أحيانا على الديمقراطية؟ وهو مقال صاحبته عشرات المؤلفات العلمية التي تثير تقريبا الموضوع نفسه: ابتذال الديمقراطية والسخط عليها.
علينا ألا نتحاشى نحن أيضا طرح السؤال المربك نفسه، ونحن نرتطم يوميا بتعبيرات اجتماعية وشعبية مكثفة، يعبر فيها التونسيون عن كرههم سياسييهم والديمقراطية معا، خصوصا بعد "25 يوليو". ما كان علينا أن ننتظر ذلك التاريخ، حتى نستنتج حقيقة كهذه، فقد كتبت في "العربي الجديد" عشرات المقالات التي حذّرت من انفضاض الناس من حول الانتقال الديمقراطي، وقد دخلت تونس، منذ سنوات، مرحلة يعبر فيها هذا الانتقال صحراءه وحيدا. وكانت مؤشّرات عديدة تشي بنفور الناس من الديمقراطية، أو على الأقل فئات واسعة منها: نسب العزوف المتفاقمة في مختلف المحطات الديمقراطية التي عرفتها البلاد، الصعود اللافت لحزب الحر الدستوري، أبرز سليل لنظام بن علي، مشاعر الحنين الجارف لحقبة الاستبداد... هذه مؤشّرات خطيرة على ما ستشهده البلاد من انحراف ديمقراطي مفتوح على كل الأوجه. ولا يتعلق الأمر هنا بفئاتٍ اجتماعية تضرّرت في معاشها ورغيفها، بل بنخب جامعية، وحتى حقوقية، انخرطت في هذا التحرّش بالديمقراطية... إلخ.

هويات عنيفة ومتشنجة تنزع عن التونسيين تونسيتهم وهويتهم، حتى استووا مخيمين لا مشترك بينهما، مستعدّين لأبشع السيناريوهات الممكنة

لم يحدُث الأمر بين عشية وضحاها، بل كان تراكما حفر في هذه المشاعر المتوترة عقدا. كانت تجربة الانتقال الديمقراطي، منذ بداياتها الأولى، قد عرفت تصدّعا عميقا في بنية النخب التي تصدرت المشهد: حاكمون ومعارضة شرسة غذّت الاستقطاب الأيديولوجي والصراعات الهووية التي استنزفت سنوات عديدة، طرحت فيها قضايا الانتماء والهوية والإسلام والخصوصية والعلمانية ومئات القضايا الثانوية التي وزّعت التونسيين إلى ملل ونحل. هويات عنيفة ومتشنجة تنزع عن التونسيين تونسيتهم وهويتهم، حتى استووا مخيمين لا مشترك بينهما، مستعدّين لأبشع السيناريوهات الممكنة.
أحدثت هذه الصراعات التي تصدّرت النقاشات العمومية على شبكات التواصل الاجتماعي وبلاتوهات التلفزة والبرلمان والمجتمع المدني إحساسا بأن اهتمامات النخب عبثية، ولا تهم التونسيين، وهي تعيش انتقالها الديمقراطي الخاص، بعيدا عن مشاعر الغبن الاجتماعي الذي تردّت فيه فئات واسعة لم تنتصر للثورة في أي يوم، إلا لأملٍ يحدوها في أن تغير أحوالهم وتغدق عليهم رخاء وعافية.
لقد أشعرت مساحات الحرية، الشاسعة إلى حد الفوضى، الناس العاديين بأنهم أيتام الانتقال الديمقراطي وغرباؤه. لم يسلم أي شيء من هذا الصداع الهووي الثقافوي الذي رافق تجربة انتقالنا المبكّر، بل حدّد جيناتها الأولى التي ظلت متحكمة فيه إلى حد يوم 25 الشهر الماضي (يوليو/ تموز).

لم تعد سردية الثورة، ولا الانتقال الديمقراطي لدى فئات واسعة، مغريةً تشدّهم إلى مشروعٍ، مستعدّين للتضحية من أجله

كانت النقاشات الفكرية السياسات ثقبا أسود، التهم كل شيء تقريبا، حتى غدا تدريجيا نفقا موحشا، لا يسلم من دخله إلا نادرا. بل إن طيفا واسعا من النخب الفكرية عزفت عن إسناد الانتقال الديمقراطي فكانت عليه قاسية. تشير أغلب الكتابات التونسية (تاريخ، علم الاجتماع. فلسفة..) إلى قتامة الوضع، كما كرّست أعمالا فنية عديدة من سينما ومسرح أن تجربة الانتقال الديمقراطي وحش مرعب، قد مسخ المجتمع التونسي، لم تعد سردية الثورة، ولا الانتقال الديمقراطي لدى فئات واسعة، مغريةً تشدّهم إلى مشروعٍ، مستعدّين للتضحية من أجله. ومع ذلك، ظلت الحرية فسيحة واسعة، حتى استحالت، في مواقع عديدة، إلى ما يشبه الفوضى. تم إضعاف الدولة حتى الإذلال من فئات واسعة، الإضرابات التي شلت المرفق العمومي (الصحة، التعليم، النقل)، حيث تعطلت عمدا حركة المرفق العمومي فجأة، ومن دون سابق إنذار، طلبا للزيادات، بفئوية أنانية، ونصرة للجسم المهني، على قاعدة انصر أخاك ظالما أو مظلوما، حتى تحوّلت تونس إلى عاصمة أبدية للإضرابات. تعطل إنتاج الفوسفات في الحوض المنجمي والبترول في الكامور (أقصى الجنوب التونسي) وغيره، ما تسبب في تردّي خدمات مؤسسات وطنية عديدة، وهي حاليا على حافة الإفلاس. المعلمون والقضاة والمهندسون والأطباء وأعوان المالية والبريد والنقل وعمّال النظافة ... لا أداة نضالية لديهم لتحقيق مزيد من المكاسب سوى الإضراب والمزايدة فيه. مليون عاطل عن العمل ينظرون إلى هذا النهم النقابي الفئوي (corporatisme) بكثير من النقمة والغضب.

نمت الشعبوية وانتعشت، مستفيدة من مناخ لا يمكن أن ننكر فيه أن الناس قد كرهوا الديمقراطية وكرهوا معها ساستهم

في هذا السياق، شلت حركة الساق الثانية للانتقال الديمقراطي، وهي التي كان ينتظر منها أن تمنح الناس رخاء اقتصاديا ورفاها اجتماعيا. ظلت نسب البطالة ترتفع، حتى بلغ جيش العاطلين ما يناهز مليون عاطل تقريبا، ثلثهم من حاملي الشهادات الجامعية. أُغلق باب الانتداب في القطاع العمومي، وتقلص أيضا الاستثمار الخاص، الوطني والدولي، ما حدّ من قدرة سوق العمل على انتداب الشبّان. ارتفعت موجات الهجرة السرّية والجريمة الاجتماعية، وفقد الناس أمنهم الاجتماعي. أصبحت الحياة لا تطاق بالنسبة إلى خزّان الغضب الاجتماعي، هذا الذي انتدب جيشا من الغاضبين على الديمقراطية والطبقة السياسية معا. وقد عبرت التحرّكات الاجتماعية التي تمت في العشرية الماضية عن مشاعر كراهية الديمقراطية، خصوصا وقد استشعروا أن دولتهم ضعيفة هشّة، تتنمّر عليهم عند مواجهة المحتجين من أبناء الأحياء الفقيرة والمهمّشة. وكانت حادثة سحل الصبي في إحدى ضواحي العاصمة، قبل شهر من قرارات "25 جويليه" (يوليو/ تموز) دالةً على هذه الدولة الفاشلة التي لا تنشب مخالبها إلا في جسدهم العاري والهزيل.
السبب الثالث والأخير لكراهية الناس الديمقراطية، إفراغ الديمقراطية من عنفوانها، فقد حولتها النخب إلى ما يشبه مسرح الظل. كما أن الحكومات المتعاقبة التي تداولت فيها النخب على السلطة ديمقراطيا (الترويكا، نداء تونس، النهضة.. إلخ) أخفقت في مقاومة الفساد. على الرغم من الإطار التشريعي والمؤسّساتي الهائل وهذه البيروقراطية الضخمة من موظفين ومناضلين جمعويين ومراصد ونوادٍ ومنظمات وجمعيات.. إلخ، فشلت البلاد حقيقة في مقاومة الفساد. وكان غياب الإرادة السياسية سببا في تصوّر الناس أنها ديمقراطية فاسدة، وسواء كانت حركة النهضة ومن حكم في تونس خلال العقد الكامل، حكومات تكنوقراط، نداء تونس.. إلخ، قد غضت الطرف عن الفساد، أو تواطأت معه أو تسترت عليه، أو تحالفت معه، أو انخرطت فيه، وبقطع النظر أيضا عن دقة التوصيف والمنزلة القانونية لجملة الممارسات التي يشملها ما حدث، والمسؤوليات القانونية والأخلاقية التي تتحمّلها "النهضة" أو غيرها من شركائها أو خصومها، فإن الثابت أن من يقطع الأمتار الأخيرة من مسلك خاطئ يدفع الثمن. .. "النهضة" تدفع ثمن كل ما تراكم من شبهات فساد.
على هذا النحو، نمت الشعبوية وانتعشت، مستفيدة من مناخ لا يمكن أن ننكر فيه أن الناس قد كرهوا الديمقراطية وكرهوا معها ساستهم.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.