عندما يسطو ترامب على مركز ثقافي
الرئيس الأميركي الأسبق أوباما وزوجته في فعالية في مركز كينيدي في واشنطن (4/12/2016 Getty)
يضرب دونالد ترامب في أيِّ وقت يشاء، وفي أيِّ شأن، وفي كل موضع. لا يحفل بالذي يُرمى به من جنون وبلاهة و"زعرنة". امتنع في حفلي تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، الشهر الماضي، وقبل ثماني سنوات، عن دعوة شاعر (أو شاعرة) أميركي، يلقي قصيدة، على غير مواظبة رؤساء كثيرين قبله (منهم بايدن) على هذا التقليد. وكان شذوذُه في هذا الأمر طبيعياً، فلا صلة للرجل بالثقافة، وجهله مريعٌ في مسائل بلا عدد، ولم يصادَف عنه أنه استقبل كاتباً أو فنّاناً أو أشار إلى كتاب قرأه أو اطلّع عليه. ولا يعتَب عليه في مزاجه هذا، غير أنه، فيما لم نعد نقدِر على متابعة أوامره التنفيذية الذي يواصل توقيعها منذ الساعة الأولى لقعوده الثاني في البيت الأبيض، باغتنا، الأسبوع الماضي، بقراره إقالة أعضاء مجلس أمناء مركز كينيدي للفنون (المسرحية والمشهدية)، وتعيين نفسِه رئيساً لهذا المركز النشط في واشنطن. وهذا إجراء لا يُقدم عليه أي رئيس بلدية في أي بلدٍ عالمثالثي، ليس للاديمقراطيّته فحسب، وإنما لأن شأناً كهذا نافلٌ بين مشاغل أهل القرار. وعجيبٌ في أمر ترامب أنه وصف نفسه بأنه سيكون رئيساً "رائعاً" لأعضاء جدد يعينهم في مجلس أمناء المركز العتيد (أنشأه إيزنهاور ثم أخذ اسم الرئيس التالي كينيدي الذي جمع له التبرّعات قبل أن يبدأ نشاطاته في 1964). وهذا الرئيس "الرائع" انفرد من بين كل رؤساء الولايات المتحدة منذ 60 عاماً بأنه لم يحضُر أي فعاليةٍ في هذا المركز.
نحن أمام ملهاة، أو مسخرة من نوع ركيك، سيّما أن ترامب ينسب إلى نفسه رؤيةً إلى "عصر ذهبي في الفنون والثقافة" لا يشاركه فيها أعضاء مجلس أمناء المركز ورئيسُهم المُقالون. ولستُ أعرف ما إذا كان من صلاحيات رئيس الولايات المتحدة أن يُقدم على أمرٍ كهذا يتعلّق بإدارة مركز ثقافي. وعندما نعرف أن أعضاء بين هؤلاء كانوا من أنصار جو بايدن وباراك أوباما سيتأكّد لدينا أنه صغيرٌ عقل الرجل الذي يحكم أقوى دولة، ويأتي في قراراتٍ له سلوكَ صبية أولاد الحارات.
يتردّد على مركز كينيدي الثقافي في واشنطن ملايين الزوار، وتنتظم فيه سنوياً أكثر من ألفي عرض موسيقي ومسرحي وأوبرالي. لم يكن دونالد ترامب من هؤلاء المرتادين الذوّاقة، فالكلام الذي يتساقط منه، ونأخذه نحن المعلقون على محمل الجد!، لا يدلّ، من بعيد أو قريب، على أي قسطٍ من سوية الشخصية. وليس من تسميةٍ للذي أقدم عليه ساكن البيت الأبيض بشأن المركز سوى أنه عملية سطو، واعتداءٌ معلن. ولا ناقة ولا جمل لصاحب هذه الكلمات حتى يدافع عن حقّ القائمين على هذه المؤسّسة الثقافية الكبرى في استقلاليّتهم في إدارة شؤونهم، من دون تدخّل] من رئيس للبلاد، تتوطّن في مداركه مشاعر الانتقام والثأرية ضد من لا يروقون له، عندما يحسّ بشخصه عالماً عليماً، بل مثقفاً نحريراً، ومقاولاً ناجحاً، عطوفاً على أهل غزّة، تُحاربه المحاكم في قضايا بلا عددٍ، وبعضها مخزٍ، لا لسبب، سوى بُغضهم طموحه ونباهته وفرادة تفكيره وحُسن تشخيصه أحوال الداخل والخارج.
يحدُث أن تتدخل حكومات عربية في إدارة أندية أو جمعيات أهلية، تبعا لمرئيات لديها بشأن أوجه اختلال، أو تقديرات أمنية أو إدارية، وغالبا ما تكون في مسلكها هذا مدفوعةً بنوازع غير مقنعة للجمهور العام، غير أن الملحوظ أن لديها، في هذا كله، سقوفاً لا تتجاوزها، وغالباً ما تكون إجراءاتها تلك مؤقتة. وبالتوازي، تُقابل هذا الذي تفعله الحكومات، والحديث هنا عن غير الصارخة في دكتاتوريّتها البوليسية، تمثيلات الرأي العام ومنابر الصحافة ومجالس البرلمانات والنقابات. ومن بؤس الطالع أن ترامب يأخذ الولايات المتحدة، في لحظة تردّي الديمقراطية فيها، وعلو الشعبويات في مفاصلها، إلى رداءة عصيّة على التشخيص والفهم، إذ كيف للرئيس أن يسطو على مجلس لتسيير مركز ثقافي وينصب نفسه مسؤولاً عن هذا المركز، وهو الذي يعادي، بطبيعته وسلوكه وأدائه، كل ما يتصل بالثقافة والآداب والفنون ... والأخلاق؟