عندما يجفّ الكلام عن لبنان

عندما يجفّ الكلام عن لبنان

28 يونيو 2021
+ الخط -

تُوقِعك الكتابة عن الراهن في لبنان في حيْصَ بيص، فمهما ظننتَ عن مقدرةٍ فيك على هذا لن تجد جديداً تأتي به، فقد كتب الزملاء في هذا البلد كل ما أمكن أن ينكتب، عن تآكل الدولة واهترائها، عن الغلاء المُفزع، عن انفجارٍ اجتماعي محتمل، عن بؤسٍ عريضٍ في كل شأن، عن انعدام الحسّ والمسؤولية لدى السياسيين في السلطة ومواقع القرار. وإذا اجتهدتَ، وأسعفتَ نفسَك ببعضٍ مما في العربية من مفردات الحنق والسخط والغضب، أو من معجم الحنين والنوستالجيات عن لبنان الذي كان، أو عن فيروزياته وجُبرانياته ومطاعمه وفلكلورياته، فإنك ستجد حالَك في المطرح نفسه، بل ستفضح تحايُلك الخائب، لا على القارئ الذي لن يمرّر شطارتك المفتعلة هذه، وإنما عليك أنت، وقد استبدّت بك أوهامٌ فيك، أنك قادرٌ على أن تشحط الذئب من ذيله، فلا تأتي فقط بتشخيصٍ نوعيٍّ للحال الماثل في لبنان الذي ينكتب، في هذه الأيام، أنه في مرض ثقيل، أو ربما يحتضر، وإنما تأتي أيضا بصيغة العلاج الممكن لإنقاذ البلد وأهله... بإيجاز، جفّ الكلام عن لبنان، ولم يعد في وُسع مستزيدٍ أن يزيد، وليس في جِرابِ أيٍّ منا، نحن صنّاع الكلام في الصحافة، ما يفيد في شيء.
ولكن، ثمّة في الحواشي والهوامش ما يُغوي بالحكي عنه، وإنْ سيردّنا أيُّ حكيٍ في أيٍّ من أمور لبنان إلى المتن العام، إلى القصة كلها، من ألفها إلى يائها، إلى الفساد والطائفية وتنويعاتهما، عواميد ينهض عليها البنيان العام للبلد. تُراه من هذه الحواشي أن وزيرة الإعلام في حكومة تصريف الأعمال، منال عبد الصمد، نجحت في نيل موافقة مجلس وزراء الإعلام العرب في اجتماعهم في القاهرة، الأسبوع الماضي، على تبنّي "جائزة بيروت للإنسانية" لعملٍ صحافي عربي أو لبناني، عن انفجار ميناء بيروت في صيف العام الماضي؟.. ثمّة، إذن، أخبارٌ أخرى تخصّ لبنان تُصادفها من غير النوع التقليدي إيّاه، كالذي عن "سخطٍ كبير" أحرزه مفوّض الشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بعد زيارته بيروت أخيراً، من "المسؤولين اللبنانيين وسلوكهم حيال الأزمة القائمة"، فقد صادفتَ، قبل وقتٍ، خبراً عن شيء من هذا لدى وزير الخارجية الفرنسي، لودريان، بعد أن غشي السخطُ نفسُه الرئيس ماكرون، على ما لم ننس بعد.
تجدّدت مظاهرات الغضب (والقرف على ما يجيز الحال) في بيروت وطرابلس وصيدا، تحترق فيها دواليب، وتُغلَق طرقات، ويهتف المحتجّون بمطالباتهم إياها، رحيل كل المسؤولين عن الوضع الذي تدلل الصحافة على تعاسته في تأشيرها إلى بلوغ الدولار عتبة 18 ألف ليرة لبنانية. وفي الأثناء، يقول الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، إن الحزب على أتم الاستعداد لمحاورة إيران لتوفير البنزين والمازوت (من المقرّر رفع أسعارها مجدّداً) إذا أعلنت الحكومة عجزها عن توفيرهما. ويقول البطريرك الماروني، بشارة الراعي، إن مؤتمراً دولياً خاصاً بلبنان قد تكون حاجةٌ إليه طالما أن الحوار السياسي والتسوية الداخلية متعثّران. وثمّة وفرةٌ من تصريحات مثل هذه، وثمّة تداولٌ "مسيحيٌّ" في الفيدرالية، إذا ما أردتَ إحاطة يومية بمواقف "الفاعلين" السياسيين في البلد. ولك، في هذه الغضون، أن تسرّي عن نفسك بمتابعة السّباب المتبادل بين نواب و"فاعلين" في تيار الرئيس ميشال عون وأمثالٍ لهم في حركة أمل، فهؤلاء يعيّرون أولئك بأنهم سارقون وناهبون، فيردّ الأخيرون بالمثل، وهكذا دواليك.
أما الذي ليس من الحواشي والهوامش في لبنان، وليس من الأخلاق ولا المروءة أن يُحسَب للتسرية، فهو ما تفيدك به، أنت البعيد، الأنباء عن ارتفاع أسعار اللحوم بنحو ستة أضعاف، ما جعل الفلافل (وسندويشاته) يتقدّم إلى صدارة مأكولات سكان لبنان الذين قالت لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا (إسكوا)، في أغسطس/ آب العام الماضي (2020)، إن 55% منهم فقراء، ثم أعلن البنك الدولي أن 40% من اللبنانيين تحت خط الفقر. وأظهرت دراسة للأمم المتحدة أخيراً أن أعداد الفقراء في لبنان ارتفعت إلى 61% منذ عام 2011. وكان برنامج الغذاء العالمي قد أفاد بأن 50% من اللبنانيين يشعرون بالقلق من عدم قدرتهم على توفير الغذاء.
أوصل هذا الحال إلى هزيمة الشاورما أمام الفلافل، الشهيّة بالمصنوعية اللبنانية المتقنة، وذات المنافع الغذائية الطيبة، والمزايا الاقتصادية... في المقدور، إذن، الكتابة عن هذا النصر المؤزّر للفلافل في لبنان، وقد جفّ كل كلام آخر.

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".