عندما كانت رفح حبل النجاة الأخير

09 ابريل 2025
+ الخط -

مع مطلع شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام المنصرم (2024)، كنت أحطُّ رحال نزُوحي في مدينة رفح. كانت، كما تخيّلت وتصوّرت، حبل النجاة الأخير، فيما كانت حشود الجيش على أعتاب مدينة خانيونس المتاخمة لرفح من الجهة الشمالية. لذلك، حملتُ كلَّ ما جمعتُه من متاع ومؤن، على قلّتهما، خلال فترة وجودي في مدينتي ومسقط رأسي، وغادرت صوب رفح، بعدما نزحتُ إليها من مدينة غزّة في الجمعة الأولى من هذه المقتلة، تحت وطأة تهديد في إعلان نشره الناطق باسم الجيش الإسرائيلي على صفحته في "فيسبوك".

خيّبت هذه المقتلة كل معتقداتي ومعتقدات أهل غزّة. ويوماً بعد يوم، كنتُ أكتشفُ أن ما أتصوّره بعيداً، يحدُث، وبأسرع مما كنت أتخيّله حتى في أسوأ كوابيسي التي تهاجمني بعد وجبة عشاء دسمة. فعندما طُلب منّا مغادرة منطقة شمال وادي غزّة إلى جنوبه، هاتفتني صديقتي من خارج القطاع تحثّني على الإسراع بالنزوح، مؤكّدة أن هذه المرّة ليست ككل مرّة. وكنت أجيبها بأن هذا مجرد تهديد، ولن يحدُث شيء. لكن، وأمام تردّدي، بدأتُ أسمع أصوات الانفجارات المرعبة التي لم أسمع مثلها من قبل، وكانت تقترب أكثر فأكثر من مكاني، بينما كنت ألوذ ببقايا بيتي المقصوف. وهكذا، حزمتُ ما تبقّى من متاعنا نحو جنوب الوادي، وأنا أهمس لأولادي: "ما هي إلا بضعة أيام وسنعود". لكننا لم نعُد، بل ابتعدنا أكثر.

خيّبت رفح اعتقادي بأنها حبل النجاة الأخير. وبعد أن أمضيتُ فيها مع عائلتي نحو ثلاثة أشهر، بدأ العدو يلوّح ويهدّد باجتياح المدينة، كما فعل في خانيونس، التي تحوّلت إلى كومة من الحجارة، مصمّماً، وبحقد أسود، على تدمير "قلعة الجنوب" كما تُسمّى. ولكنّي، كالعادة، ومثلي كثيرون، كنّا نعتقد أن ما نسمعه مجرّد تهديدات، وأن العدو لن يجرؤ على اجتياح رفح، المدينة التي لم نعد نملك غيرها لننزح إليها. وكأنّ نزوحنا كان يسير في خط مستقيم، كما لو أنه خطٌّ رُسِم على الخريطة، فصرختُ في وجوه أولادي لأطمئنهم: "رفح مختلفة عن كل المدن".

خاب توقّعي، بعد أن تعلّقت بالمدينة التي دخلتها أول مرّة في حياتي. واكتشفتُ، رغم صغر مساحتها مقارنةً بباقي مدن القطاع، أنها مدينة عامرة بالخير، وأهلها بسطاء، لم يغيّر الزمن فطرتهم. كانوا يحرصون على النوم باكراً، فيلفّ الهدوء الأجواء، وتُغلق أبواب البيوت، ولا يُسمع سوى هدير البحر من بعيد. كنت أقيم في بيتٍ لا يبعد سوى أمتار عن البحر، وفي ذات الوقت، لا يبتعد كثيراً عن الحدود المصرية. كنت أتأمّل ذلك الشريط الحدودي الشائك، وأحدّث نفسي: كيف لهذا السلك الرفيع أن يحوّل حياتك من خوف ورعب إلى أمن وسلام؟! لكن، كل ما عليك أن تفعله هو اجتيازه. وهيهات! فكأن القفز من فوقه يشبه قفزة لاعب سيرك من فوق النار.

خطفتني رفح وأهلها ثلاثة أشهر. أصرّ الجيران على استضافتي عدة أيام متتالية، رغم أنهم لم يكونوا يعرفونني. أمّا طيبتهم وتفانيهم في توفير سبل الراحة الممكنة للنازحين الغرباء في وقت الحرب، فحدّث ولا حرج. كنت أتأمّل هذه المدينة الصغيرة، التي لم تكن تملك مستشفى، رغم أن مساحتها 64 كيلومتراً مربعاً، ويقطنها قرابة ثلاثمئة ألف نسمة. مدينة مهمّشة، أصبحت حبل النجاة الأخير لي ولآلاف غيري، حتى قرّر العدو إعادة احتلالها، وتفتيت ما تبقّى منها، وتدمير ما تم تدميره، وكأنه يخبر العالم بأسره: لا طوق نجاة، لا حبل، ولا حتى سوار، من هذه الإبادة الضبابية التي يمضي فيها بكل إصرار وترصّد.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.