عندما صار الحوار الفلسطيني في الجزائر لقاءات

عندما صار الحوار الفلسطيني في الجزائر لقاءات متفرّقة

31 يناير 2022

تبون يستقبل عباس في الجزائر (6/12/2021/الأناضول)

+ الخط -

أعلن الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبّون، في أثناء استقباله رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، أوائل ديسمبر/ كانون الأول الماضي التبرّع بمبلغ مائة مليون دولار للسلطة، كما استضافة ندوة جامعة للفصائل الفلسطينية على الأراضي الجزائرية. وكان المعنى واضحاً بحسب التعبيرات والمصطلحات السياسية والإعلامية المستخدمة في الجزائر والمغرب العربي عموماً، وقصد به عقد حوار جامع للفصائل الفلسطينية برعاية القيادة الجزائرية. ثم مع الوقت تحولت الندوة الجامعة إلى لقاءات متفرّقة للفصائل، حيث استقبلت الجزائر خلال يناير/ كانون الثاني الحالي، وللدقة جهات سيادية – مخابراتية، فيها وفود من حركتي فتح وحماس ثم الجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية - القيادة العامة، على أن تستقبل حتى نهاية الشهر ممثلين عن الجبهة الشعبية وحركة الجهاد الإسلامي، لمناقشة الوضع الفلسطيني الراهن، وتسلم رؤاها أو تصوراتها لكيفية إنهاء الانقسام وتنفيذ تفاهمات المصالحة.
بداية، وقبل التطرق إلى أسباب تحوّل الحوار من ندوةٍ جامعةٍ إلى لقاءاتٍ متفرّقة وحيثياته، لا بد من التوقف عند خلفيات الدعوة الجزائرية وأهدافها في هذا الوقت بالذات، كما الدعم المالي السخي للسلطة الفلسطينية التي تعاني أزمة مالية حادّة منعتها من دفع رواتب موظفيها نتيجة تقلص الدعمين، العربي والدولي، خلال السنوات الماضية.
كانت الجزائر من الدول العربية القليلة التي أوفت تاريخياً، وبشكل منتظم، بالتزاماتها المالية المقرّرة من جامعة الدول العربية، للسلطة الفلسطينية، ضمن التزام معنوي وسياسي ومادي تاريخي أيضاً تجاه القضية الفلسطينية، قبل أن يتعثر هذا الأمر في السنوات الأخيرة نتيجة التطورات الداخلية والأزمة الاقتصادية، خصوصاً مع انتشار جائحة كورونا التي أثّرت في الاقتصاد العالمي برمته.

تحفّظ عبّاس على الدعوة الجزائرية منذ اللحظة الأولى، لكن ما كان بإمكانه إحراج مضيفه، وإعلان رفضه لقاء الفصائل لا في الجزائر ولا في غيرها

وعموماً، يمكن فهم إعلان التبرّع السخي بالتزامن مع الدعوة إلى الندوة الجامعة للفصائل الفلسطينية ضمن سياقين، داخلي وخارجي، يتعلق الأول باسترضاء الرأي العام الجزائري ومراكمة شرعية السلطة الجديدة، على الرغم من التفافها على مطالب الحراك الشعبي، والنظر إليها باعتبارها تحديثاً أو تجميلاً لنظام الاستبداد والفساد الذي حكم البلاد منذ الاستقلال، وأسقطته انتفاضة الشعب الجزائري، عبر منع التجديد للرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، لعهدة رئاسية خامسة. أما السبب الخارجي، فيتعلق بالأزمة ثم القطيعة مع المغرب، إثر تطبيعه مع إسرائيل، وقطعه شوطاً كبيراً، وعلى كلّ المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، قبل أن تفرمل الرباط خطواتها لأسباب عديدة أيضاً داخلية وخارجية، منها ارتفاع منسوب الغضب الشعبي ضد العلاقة الزائدة على الحدّ مع تل أبيب، إضافة إلى تخلي اللوبي الصهيوني في واشنطن أو تقاعسه، وحتى إدارة الرئيس جو بايدن نفسها، عن دعم المواقف المغربية والدفاع عنها، وتحديداً تجاه قضية الصحراء الغربية. والشاهد هنا أنّ السلطة الجديدة في الجزائر سعت، بوضوح، إلى استخدام الورقة الفلسطينية لتعزيز شرعيتها ورفع شعبيتها في الداخل، كما لمواجهة خصومها في الخارج، ما وضع نفسها في الإطار الوطني القومي عكس المطبّعين المفرطين بالقضية الفلسطينية العادلة.
يمكن اتباع المقاربة نفسها عند الإجابة عن أسباب تحوّل الحوار الفلسطيني من الندوة الجامعة إلى اللقاءات المتفرقة للفصائل مع جهات سيادية – مخابراتية (غير سياسية)، وبعيداً تماماً عن الإعلام والأضواء. مبدئياً، حقق الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، أهدافه السياسية والإعلامية بمجرّد استقباله محمود عبّاس، وإعلان التبرّع السخي للسلطة الفلسطينية، والدعوة إلى الحوار الفلسطيني، بغضّ النظر عن النتائج والمضمون وما سيتحقق بعد ذلك. بينما تحفّظ عبّاس على الدعوة الجزائرية منذ اللحظة الأولى، لكن ما كان بإمكانه إحراج مضيفه، وإعلان رفضه لقاء الفصائل لا في الجزائر ولا في غيرها، غير أنّه سعى، بعد ذلك وبهدوء وبعيداً عن الأضواء، أيضاً إلى إيصال رسائل صريحة مباشرة وغير مباشرة إلى القيادة الجزائرية، وعبر وسطاء عرب، برفض انخراطه الجدّي في الحوار، لعدة أسباب، منها التذرّع بفشل الجولات الحوار السابقة، كما التحجّج بالوساطة المصرية الحصرية، المتوقفة على أي حال، في الملف الفلسطيني بقرار من جامعة الدول العربية نفسها، لكن مع مراعاة الدعوة الجزائرية شكلاً، وإرسال وفد حركة فتح إلى هناك في زيارة روتينية.

تعاطت مصر التي ترى نفسها الوسيط والراعي الرسمي للحوار الفلسطيني مع الدعوة الجزائرية، وترحيب الفصائل بها، بتوجس وريبة

وفي حقيقة الحال، كان عبّاس قد اتخذ قراره بطيّ صفحة الحوار والمصالحة برمتها، والسير بعيداً عنها أولاً عبر الهروب من الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي وضع قواعدها وشروطها بنفسه، ثم الدعوة إلى انعقاد المجلس المركزي والتعيينات الأحادية في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والمجلس الوطني، بمعزل عن التوافق، ما يعني إعلاناً رسمياً لنهاية الحوار واللقاءات الثنائية والجماعية التي امتدت سنوات، وتنقلت ما بين القاهرة والدوحة وبيروت وإسطنبول و...
الجزائر بحاجة كذلك إلى الدول العربية للاصطفاف إلى جانبها، أو على الأقل اتباع الحياد في أزمتها مع المغرب، كما لتجاوز تحدّي عقد القمة العربية على أراضيها بنجاح وبأقل الخسائر. وفي هذا الصدد، تلقت رسائل من السعودية ومصر، كما نقلت "العربي الجديد"، بالإقلاع عن الوساطة أو التدخل الجدّي في الملف الفلسطيني، خصوصاً أن مصر التي ترى نفسها الوسيط والراعي الرسمي للحوار الفلسطيني تعاطت، منذ اللحظة الأولى مع الدعوة الجزائرية، وترحيب الفصائل بها، بتوجس وريبة، قبل أن تتلقى طمأناتٍ بإفراغها من محتواها، وأن الأمر محض دعائي وإعلامي، وما من حوار أو نقاش جدّي سيجري بين الفصائل، وإنما لقاءات روتينية استكشافية فقط. وقد فهمت الفصائل نفسها هذه الحقيقة. وللتذكير مثلاً، ومع ترحيب "حماس" بل احتفائها بدعوة الرئيس تبّون عند إطلاقها، أعلن رئيس مكتبها السياسي، إسماعيل هنية، ترؤس الوفد بنفسه إلى الجزائر، قبل أن يجري الاكتفاء بإرسال عضوين من المكتب السياسي، خليل الحية وحسام بدران، وبتغطية إعلامية خجولة من الجانبين.

بدت دعوة الجزائر الجبهة الشعبية - القيادة العامة التي تقيم قيادتها في دمشق لافتة جداً، وتكاد تختصر المشهد كله

أما الفصائل الصغرى الأخرى المدعوّة، حتى وإن كانت ذات حضور تاريخي، فيما تأثيرها بات هامشياً ومحدوداً على الساحة الفلسطينية، حيث تعطيها استطلاعات الرأي مجتمعة أقل من 10% من الأصوات في أي انتخابات مقبلة، فرأت في الدعوة مناسبة لتكريس شرعيتها وحضورها وأهميتها، حتى مع فهمها أن لا شيء جدّياً في ما يجري. وفي السياق، بدت دعوة الجزائر الجبهة الشعبية - القيادة العامة التي تقيم قيادتها في دمشق لافتة جداً، وتكاد تختصر المشهد كله، لكونها تنظيماً هامشياً لا تأثير له فلسطينياً، علماً أنّه يتمتع بعلاقات جيدة مع الجزائر التي تتعاطى معه كما أطراف عديدة أخرى، وكما يعرّف هو نفسه أصلاً باعتباره جزءاً من النظام السوري. ومن هنا، تمثل دعوة "القيادة العامة" رسالة ترضية جزائرية إلى نظام بشار الأسد إثر تضاؤل فرص دعوته إلى القمة العربية، إذا عقدت القمة أصلاً، ولو متأخرة عن موعدها المقرّر في مارس/ آذار المقبل.
وفي الأخير، وباختصار وتركيز، وبناءً على المعطيات السابقة، يمكن استنتاج، وحتى تأكيد، أنّنا أمام لقاءات متفرقة لجهات سيادية "مخابراتية" جزائرية على مستوى منخفض، وبعيداً عن الإعلان والإعلام والأضواء مع ممثلي الفصائل الفلسطينية، لقاءات متفرّقة لن تتحول إلى ندوة جامعة، لكونها في الحقيقة بديلاً منها وطريقاً التفافياً عليها.