عندما تُهدَر السيادة الغذائية للمصريين

عندما تُهدَر السيادة الغذائية للمصريين

06 أكتوبر 2022

مزارع مصري يجمع ثمار الجوافة في محافظة القليوبية (24/9/2022/Getty)

+ الخط -

نظمت مؤسسة بحثية مصرية وعربية متميزة، قبل أعوام، مؤتمرا، وكان أحد محاوره عن السيادة الغذائية في المنطقة العربية. وفي أثناء الحوار، طرح أحد أصحاب الأوراق كيفية التعامل بمنتهى الاستهتار في مسألة السيادة الغذائية في مصر، محذّرا من أننا، خلال سنوات، قد نفاجأ بشركات دولية استولت على أصول نباتية مصرية، وسجلتها باسمها، وضمنت عليها حقوق الملكية الفكرية، تطارد المزارعين المصريين البسطاء، سواء عبر القضاء المصري أو الدولي بسبب ما تفعله الحكومة من تقاعس في تسجيل الأصول النباتية المصرية.

قبل أيام، أصدرت المحاكم الاقتصادية فى طنطا والقاهرة والإسكندرية ثلاثة أحكام منفصلة ضد أربعة مزارعين مصريين، بعد زراعتهم صنفا من العنب الأسود، تحمل الشركة الأميركية "صن وورلد"، حقوق ملكيته الحصرية، وتسوّقه عالميًا تحت الاسم التجاري الخاص بها، على أساس أن المزارعين زرعوه من دون الحصول على ترخيص بذلك. ووفقا للتقارير، شهدت مصر خلال الشهور الماضية تكرار الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم الاقتصادية بشأن حماية الأصناف النباتية، وكأنّ القانون والقضاء المصري أصبح يعمل لصالح الشركات الدولية وضد السيادة الغذائية للمصريين، وبذلك يصير عليهم كمجتمع أن يتساءلوا: ما القصة إذاً؟

تفيد التقارير بأنّه في مارس/ آذار 2017، انضمت مصر للاتفاقية الدولية لحماية الأصناف النباتية الجديدة، بعد موافقة مجلس النواب على قرار رئيس الجمهورية بالتصديق على الاتفاقية، والتي نصّت على حماية حقوق الملكية الفكرية للأصناف النباتية الجديدة، وهو ما أعقبه إدخال الحكومة تعديلات تشريعية، في يوليو/ تموز 2019، على قانون حماية الملكية الفكرية، عبر تعديلات على تسع مواد قانونية تتعلق بحماية الأصناف النباتية الجديدة، ليصبح القانون أكثر توافقاً مع أحكام الاتفاقية.

أصبحت الشكوى من الأسعار المبالغ فيها للبذور والتقاوي أزمة متكرّرة في مصر عند بداية كلّ موسم زراعي

خلال العقود الثلاثة الماضية، اختفت أصناف وأصول نباتية مصرية عديدة وبذورها من السوق لصالح الشركات العالمية التي دخلت في مجال إنتاج البذور والتقاوي بقوة، خصوصاً عقب سياسات التحرير الاقتصادي النيوليبرالي في العقد الأخير من حكم حسني مبارك، إذ بيعت شركاتٌ عديدة لمستثمرين أجانب، رغم الاحتجاجات الكبيرة للعمّال ضد هذه السياسة وضد بيعها والتفريط فيها بثمن بخس، رغم أنها تعمل في قطاعات استراتيجية.

اختفت هذه الأصول البلدية التي كان يزرعها المصريون، وتتحمّل الظروف المناخية الجيدة، وتراجع مع اختفائها دور مراكز البحوث الزراعية التي كانت تضم خبرات مصرية هائلة، تحول عديد منها إما إلى عمالة لصالح هذه الشركات التي كانت ملكاً للدولة وجرى بيعها، أو اكتفى بتطوير أبحاثه ووضعها في الأدراج، أو هاجر إلى دولٍ تقدّر ما عمله، بينما أصبحت الشركات الدولية تنتج أصنافاً من البذور لا يمكن للمزارع إعادة استنباطها. وإذا فعل فإنه قد يتعرّض للمساءلة القانونية، وأصبح العثور على التقاوي والبذور الأصيلة عملية صعبة وتكاد تكون مستحيلة في العديد من الأصناف.

في المقابل، ضاعفت الشركات الدولية العاملة في مجال إنتاج البذور والتقاوي، وفي ضوء انسحاب الدولة من القطاع تماماً، أسعار البذور والتقاوي عدة مرّات، حتى أصبحت الشكوى من الأسعار المبالغ فيها للبذور والتقاوي أزمة متكرّرة في مصر عند بداية كلّ موسم زراعي.

تبدو مصر قاب قوسين أو أدنى من أن تفقد سيادتها على النيل الذي نشأت حضارتها ودولتها على ضفافه

من ناحية أخرى، تحكّم مثل هذه الشركات الدولية في عملية إنتاج البذور وتوزيعها وتسعيرها بالتوازي مع محاولات ترويج نموذج الزراعات التعاقدية والزراعة من أجل التصدير، لم يصبّ في صالح المزارع الذي اكتوى بنار مدخلات الإنتاج المرتفعة جداً، وبأسعار غذائه الذي لم يعد يزرعه، والذي تضاعف أيضاً، وهنا يضيع ما اكتسبه اسمياً نتيجة زراعات تعاقدية تلبّي رغبة الشركات والمصدّرين في تضخم أسعار السلع الغذائية الأساسية، ولعلّ أزمات حادّة رأيناها في الارتفاعات غير المنطقية، في بعض الأحيان، لأسعار البطاطس والطماطم والخضروات خلال السنوات الماضية، والتي كانت تعود غالباً إلى أزمات في البذور هي خير دليل على غياب السيادة الغذائية للمصريين على ما ينتجونه وما يستهلكونه من غذاء وحبوب.

وفي هذا السياق، تضعف سلطة الدولة وتصبح السيادة للشركات المنتجة للحبوب والعاملة في مجال الإنتاج الغذائي والمصدّرين الكبار والوكلاء المحليين الذين يحدّدون ماذا يزرع المصريون، ويحدّدون بالتبعية النمط الغذائي لهم، وهنا تحدُث مشكلات كبيرة، عندما تتوقف سلاسل الإمداد العالمية، فبينما تنتج البلاد كميات هائلة من محاصيل للتصدير فإنها تستورد محاصيل أخرى بقيمة أعلى من تلك المصدّرة، كان من شأن وضع أولويات المجتمعات المحلية في الحسبان عند التخطيط لسياسة زراعية سليمة أن يقي المصريين شر تلك الأزمات الغذائية الحادّة، ويقي المزارعين شر تقلبات الأسواق العالمية وسلاسل الإمداد، ويبقيهم فوق خطوط الفقر الذي تشتدّ وطأته في الريف المصري.

تحذيرات في مجال السيادة الغذائية، منذ سنوات، من خطورة الاتفاقات والتعديلات القانونية التي تجري من دون دراسة لمخاطرها وآثارها

وبالرغم من أن المجتمع البحثي والعلمي والناشطين في مجال السيادة الغذائية يحذرون، منذ سنوات، من خطورة مثل هذه الاتفاقات والتعديلات القانونية التي تتم من دون دراسة لمخاطرها وآثارها، وقبل تسجيل كل الأصول النباتية المصرية التي تتنافس الشركات على تسجيلها باسمها منذ عقود، فإن الحكومة المصرية وافقت على مثل هذه الاتفاقات المكبّلة، وعدلت القوانين وفقا لها من دون دراسة متأنية لتبعات تلك الخطوة.

العجيب أنّ ضعوط المجتمع المدني المهتم بالسيادة الغذائية في تونس، بالإضافة إلى وعي الرئيس التونسي الأسبق، منصف المرزوقي، لمسألة السيادة الغذائية، نجحت، عبر نضال شاقّ في استعادة آلاف من الأصول النباتية التي كانت شركات فرنسية ودولية قاب قوسين أو أدنى من تسجيلها باسمها لضمان حقوق الملكية الفكرية تلك عليها.

في التحليل الأخير، إذا كانت مصر التي تعلن عن مشاريع زراعية قومية كبرى، كالدلتا الجديدة والمليون ونصف المليون فدّان، قاب قوسين أو أدنى من أن تفقد سيادتها على النيل الذي نشأت حضارتها ودولتها على ضفافه، بعد الخضوع للتعنت الإثيوبي بإنشاء سد النهضة ومتابعة عملية ملئه من دون اتفاق ملزم حول الإنشاء والتشغيل والإدارة، على اعتبار أنّ النيل ينبع من خارجها، فعلى الأقل يجدر بها وبالمسؤولين فيها ألّا يفقدوا سيادة مصر والمصريين على الأرض والزراعة التي هي بين أيديهم، وتتعلق بأرواحهم حاضراً ومستقبلاً، عبر تسييد الشركات الدولية وتحكيمها في رقاب المصريين.