عندما تقرّر الرياضة مصير تشريعيات فرنسا

عندما تقرّر الرياضة مصير تشريعيات فرنسا

05 يونيو 2022

قوات درك فرنسية أمام جماهير ليفربول في مباراته مع ريال مدريد في باريس (28/5/2022/ Getty)

+ الخط -

شهدت باريس، الأسبوع الماضي، نهائي رابطة أبطال أوروبا بين عملاقي الكرة في القارّة، ريال مدريد وليفربول، وهو النّهائي الذي لم تُبرز فيه فرنسا قدرات تنظيم كبيرة، بل انتهت، لأول مرة، إلى تأخير موعد انطلاق المباراة بقرابة 45 دقيقة، بسبب تدافعٍ حصل على بوابات الملعب، استُخدم خلاله الغاز والعصي لتفريق مشجّعي "ليفربول"، وبعض ممن نُعتوا بمشاغبي ضواحي باريس، في إشارة إلى المهاجرين المغاربيين والأفارقة ممن هم من ساكني المنطقة المعروفة بـ"سان دوني".

إلى هنا، الخبر عادي، لولا أنّ الأمر يقع أوّل مرّة في نهائي دوري أبطال أوروبا، ولولا تسييس الطبقة السياسية الفرنسية الحادث، وتحويله إلى عامل جذب للنّاخب، سواء من أقصى اليسار أو من اليمين المتطرّف، إبرازاً لفشل السياسة العامة الأمنية للدولة الفرنسية تحت حكم الرئيس ماكرون، وبخاصة أن فرنسا على مقربة من تنظيم كأس العالم لرياضة الروغبي (2023) واستقبال الألعاب الأولمبية في العاصمة باريس (2024).

ونحن على مقربةٍ من تشريعيات مصيرية، في فرنسا (تجري على دورتين يومي 12 و19 يونيو/ حزيران الحالي)، لم يجد السياسيون من بدّ لاستغلال الظروف السيئة التي جرت فيها أطوار النّهائي الرّياضي، وهو الحدث الأبرز من حيث التسويق الرّياضي لفرنسا، على خلفية الحدثين الرياضيين المشار إليهما، في العامين المقبلين، وعوائدهما الاقتصادية، بصفة خاصة، في فرنسا التي تعيش أزمة اقتصادية خانقة، وبخاصّة أنّ فرنسا كانت قد استغلّت ظروف الحرب، بين روسيا وأوكرانيا، للمطالبة بتنظيم النهائي على أراضيها، بعد أن كان مبرمجاً في مدينة بيترسبورغ الروسية. ولكن، بسبب عدم التّحضير الجيد للحدث الرياضي، من ناحية، وبسبب تحيّن الفرص للاستغلال السياسي في أفق التشريعيات المقبلة. من ناحية أخرى، تُركت الأمور تستفحل من على بوابات الملعب، ولا سيما بتعنيف الجمهور البريطاني، لتكون الفضيحة موضوع الحملة الانتخابية على منصّات التواصل الافتراضية، وعلى بلاتوهات الشاشات الإخبارية، تلوكها ألسنة السياسيين، وفي مقدمتهم متصيدو تلك الأحداث من سياسيي أقصى اليسار واليمين المتطرّف، باتهام الأوائل النظام (وزارة الداخلية خصوصاً) بسوء تنظيم النّهائي الرّياضي، ووجوب إعادة النّظر في السّياسة الأمنية والتّنظيمية للشُّرطة، في إشارة إلى تعنيف السلطة، في فرنسا، المحتجين من حركة السُّترات الصفراء، وما نجم عن ذلك من تداعيات في تدهور صورة فرنسا، على المستوى العالمي، بسبب صور ذلك التعنيف والاستخدام المُفرط للقوة ضد المتظاهرين السلميين.

علامات تدل على تدهور مكانة فرنسا وتحوّلها إلى معقل لانتشار العنصرية ونظريات التفوق العرقي

أمّا سياسيو اليمين المتطرّف، فقد أشهروا سيف الحجاج ضد ساكنة ضواحي باريس، واتهموهم بأنهم المسببون للأحداث، باستغلال صور ملتقطة لبعضهم، وهم عشرات على أقصى تقدير، يحاولون تجاوز أسوار الملعب للدّخول من دون تذاكر. كذلك حاول هؤلاء السياسيون اتّهام المهاجرين بأنّهم سرقوا تذاكر الجمهور البريطاني في تبرير استخدام الشرطة الغاز والتعنيف المفرط ضد مشجّعي ليفربول للحؤول دون وقوع أحداث دموية، بزعمهم.

يشار، هنا، إلى أنّ ثمّة شهادتين، متناقضتين من حيث المضمون، أولاهما من مسؤولين نقابيين للشرطة الفرنسية قاموا بمداخلات على قنوات معروفة بانتماءاتها اليمينية المتطرّفة، وسارعوا، دونما أية أدلة، إلى اتهام المهاجرين من ساكني الضاحية الباريسية التي يوجد فيها الملعب بأنّهم المسبّبون لكلّ تلك الأحداث، فيما جاءت الشّهادة الثّانية من الوزير الفرنسي للدّاخلية، جيرالد دارمانان، المسؤول عن الشرطة الفرنسية، لتبرير تلك الأحداث من خلال تغريدة على "تويتر"، تضمّنت الإشارة إلى أنّ سوء التنظيم والأحداث هو بسبب محاولة آلاف من مشجّعي ليفربول، الفريق البريطاني، دخول الملعب من دون تذاكر أو بتذاكر مزوّرة طُبعت من على الإنترنت (تحدّث الوزير عن نحو 40 ألف تذكرة مزوّرة).

فرنسا تتغير، ولكن نحو الأسوأ بالنسبة إلى احترام التعدّدية الثقافية والحريات الأساسية بالنسبة إلى مواطنيها

على خلفية تينك الروايتين، سارت التحليلات شارحةً مسبّبات الأحداث ومبرّرة تسييرها، سياسياً، لكل قطب مشارك في التشريعيات، وهي ثلاثة: اليمين واليمين المتطرّف واليسار المتحد مع أقصى اليسار وكتلة الرئيس ماكرون، محوّلة حدثاً رياضياً إلى نقاش/ جدال يوصل أصحابه إلى مكمن التشريع في الجمعية الفرنسية، وبمضمون تحليلي، يشير إلى الاستمرار في استخدام أيديولوجية "الانعزالية"، وتحميل المغاربيين والأفارقة، من المهاجرين، وزر أي شيء يحدُث، على الرغم من تغريدة الوزير والشهادات المتواترة من الإنجليز بشأن تعامل الشرطة الفرنسية معهم، برغم حيازتهم التذاكر. ولكن، وهنا المهم، عدم تحضيرهم لتوافد العدد الهائل من المشجّعين الذين اعتادوا، في بريطانيا، دخول الملعب في الربع ساعة الأخير قبل انطلاق المباريات، أي إنّ الشرطة الفرنسية لم تجهّز نفسها، على كل المستويات، ومنها معرفة سوسيولوجية المشجع البريطاني، للتسيير الحسن للحدث الرياضي.

لم يشفع كل ما سبق لتبقى الأحداث في دائرة التنظيم السيئ، بل يتم، في فرنسا، في الأعوام الأخيرة، تسييس كل قضيةٍ، مهما كانت، مع الاستهداف المستمر والكامل للمهاجرين في إطار تبرير الفشل في الاقتصاد، وإعلاء نظرية الاستبدال الكبير، من جهة، والانعزالية، من جهة ثانية، في حين أن الحقيقة أن فرنسا، من وحي أزمتها الاقتصادية والفشل في السياسة العامة، في كلّ النواحي، هي السبب الحقيقي، لأن النتيجة التي تحدّثت عنها الوسائل الإعلامية الأجنبية، وخصوصاً الإسبانية والبريطانية، أن تدهور صورة فرنسا وعدم جاهزيتها لتنظيم الأحداث الرياضية الكبرى هي الحقيقة الناصعة، وليست تلك المبرّرات العنصرية التي انتقد الإعلام الفرنسي اليميني، بالرغم من ذلك كله، تقارير وزيري الداخلية والرياضة الفرنسيين وتصريحاتهما مستمرة في اتهام المغاربيين والأفارقة. ولتبرير عنصري عجيب، بخلفية سياسية بارزة للعيان، ذهبت تحاليل إلى أن الأجانب، من الغرب، أصبحوا، بسبب أولئك المغاربيين والأفارقة، يحذّرون مواطنيهم المسافرين إلى باريس من الاقتراب من الضواحي، بل وأخذ التدابير للحذر من أشخاصٍ بعينهم، في إشارة إلى المهاجرين، وهي علاماتٌ على تدهور مكانة فرنسا وتحوّلها إلى معقل لانتشار العنصرية ونظريات التفوق العرقي، إضافة إلى الكراهية الشديدة للآخر، مع ادّعاء الإنسانية وحقوق الإنسان والديمقراطية.

يجري تسييس كل شيء في فرنسا، ويكون المتهم فيها جاهزاً، كما يجري استخدام الإعلام فيها، الحقيقي والافتراضي، لنشر كل ألوان العنصرية

يتذكّر بعضهم أنّ الدنيا، في الأسبوعين الأخيرين، قامت ولم تقعد، بسبب اعتذار لاعب سنغالي مسلم عن اللعب في مباراة فريقه (باريس سان جيرمان)، بعد قرار الاتحاد الفرنسي لكرة القدم إلزامية ارتداء شارة المثليين، بمناسبة اليوم الفرنسي لمحاربة العداء للمثلية، وهو الجدال الذي لم يكن له أي سبب، بما أنه يدخل ضمن احترام الخصوصيات الثقافية والدينية للأفراد، وهو روح علمانية فرنسا، ما يؤشّر على أن فرنسا تتغير، ولكن نحو الأسوأ بالنسبة إلى احترام التعدّدية الثقافية والحريات الأساسية بالنسبة إلى مواطنيها الذين تعاملهم على أساس التفرقة والتمييز باعتبار اللون، العقيدة والأصول الثقافية، وهي نظرية العنصرية عينها، الكراهية للأجانب، ومذهب من مذاهب الاستبدال الكبير والتفوق العرقي، وكلها نظريات مقيتة، يعتبرها القانون إجراماً حقيقياً في حق الإنسان وحرياته.

إنها فرنسا بلد الحريات التي يجري تسييس كل شيء فيها، ويكون المتهم فيها جاهزاً، كما يجري استخدام الإعلام فيها، الحقيقي والافتراضي، لنشر كل ألوان العنصرية، مما يمكن، معه، التنبؤ بنتائج التشريعيات المقبلة التي جرى إقرار الفائز فيها، ليس على أساس الصندوق، منطق الديمقراطية، بل على أساس الاتهام بالباطل والاستمرار في التعامل بالأدوات نفسها التي عفا عنها الزمن في مناطق أخرى، ولم يبقَ لفرنسا إلا التعويل عليها لتبرير الفشل والتردّي في المكانة في التأثير، داخلياً وخارجياً.