عندما تعيد فرنسا تعريف التّطرّف وحرية التّعبير

عندما تعيد فرنسا تعريف التّطرّف وحرية التّعبير

06 نوفمبر 2020
+ الخط -

يصرّ الرّئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على إعادة تشكيل أمور عدّة في بلاده، ويبدو على عجلة من أمره. ولهذا فتح جبهات كثيرة، منها ما هو داخلي ومنها ما هو دولي، مستخدما أدوات عديدة. ولكن، بالنّسبة للنّاظر بعمق إلى تلك المسلكية السياسية، فإنها تدور حول محور مهم، وهو إعادة تعريف مصطلح معروف لدى العامّ والخّاص، وهو التطرّف، بمختلف معانيه ومدلولاته السياسية والفلسفية، بهدف يشكّل خلفية ذلك كلّه، وهو الفوز بعهدة رئاسية ثانية، من ناحية، وتجهيز الفرنسيين للقبول بتقسيم طبقي جديد وبمرحلة ما بعد الرّأسمالية تعيد النّظر في الدّور الاجتماعي للدّولة، وفق المقاربة المعروفة للنّموذج الفرنسي، من ناحية أخرى.

يشارك ماكرون مع طبقة من السّياسيين، المفكرين والإعلاميين في عملية تشكيل العقل باقتراح إدراك جديد للمفاهيم التي يكثر بشأنها الجدال، وكأنّه يريد إحياء عصر التنوير الفلسفي الذي ساهم فيه الفرنسيون بوضع أسس التصوّر الفلسفي. ولكن، هذه المرّة، يشارك هؤلاء، جميعهم، في تغيير مضمون تلك المصطلحات وتوجيهها التّوجيه الذي يخدم المصالح السياسية، بدلا من توجيهها لتكون قاعدة للتأسيس لفكر سياسي قد يغيّر مسار إشكاليتين حيويّتين، وهما المواعيد الانتخابية المقبلة، باستمالة أصوات اليمين، بعد فشل مشروع الحزب الذي كان يريد إنشاءه، وشكل الرّأسمالية التي ستلي انتهاء الوباء العالمي الحالي.

يشارك ماكرون مع طبقة من السّياسيين، المفكرين والإعلاميين في عملية تشكيل العقل باقتراح إدراك جديد للمفاهيم التي يكثر بشأنها الجدال

يسعى الفرنسيون إلى تعريف التطرّف وفق مفهوم يرتبط بحرية التّعبير، بحيث أنّ رفض تعريفهم أيّا من المفاهيم تطرّف، وأنّ طرحهم تلك المفاهيم، بتلك المقاربات، هو عين حرية التعبير. وبذلك يستحوذ هؤلاء على أولوية رؤاهم لتلك الظواهر، باعتبارها تنتمي إلى ادراكاتهم حصريا من دون رؤى ومفاهيم الآخرين، على الرّغم من أنّ الكلّ يعرف أنّ المفاهيم تُعرّف، الآن، وفق موقع قوّة طرف يريد فرض رؤاه. ويكفي أن ندلّل على ذلك بالخلط الذي أصبحت تُفهم به مفاهيم مثل الإرهاب والمقاومة، أو محاولة فرض مفهوم الجهاديين لوصف من يقوم بأعمال إرهابية هي، حقا، لا تمت إلى الإسلام بصلة، وليست من مُثُل الإسلام ولا من مبادئه، تماما مثل ما تحدّث به رئيس وزراء كندا، جوستين ترودو، عقب حادثة كاتدرائية نيس، في فرنسا، منذ أيام، فقط.

في هذا الإطار، يُعرّف التطرّف بأنه كلّ اتّجاه، في عرف الفرنسيين، يحول دون فرض رؤى للتّاريخ، للحياة أو للعلاقة بين السلطتين، الروحية والزمنية، بحيث أن معاداة السامية، مثلا، لم تصبح تتجّه إلى التّعريف بمن يعادي اليهود، أو لا يعترف بالمحرقة اليهودية، بل معاداة السامية. الآن، هي كلّ من يُبغضهم الصهاينة أو لا تتفق آراؤهم مع تعريفات الفرنسيين، والغرب عموما، لتلك المفاهيم، وهو كلام سمعناه من عدّة مفكرين ممّن يعانون من بطش هؤلاء بمن يعارضهم في رؤاهم تلك، حتى من الفرنسيين أنفسهم، وهو ما ينطبق، حاليا، على عملية التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، أو صفقة القرن وقضية القدس، وغيرها من القضايا التي يُراد منها تصفية تلك المفاهيم وتعويضها بمفاهيم جديدة أو تحريف التعريفات القديمة لها، وفرض فهم وتعريفٍ جديدين، يليقان ويتطابقان مع الأوضاع الجديدة تمام المطابقة.

طبعا، المسألة لا تتعلّق بالتّطرّف الذي يحاول هؤلاء إلصاقه بالإسلام، والجميع يتذكّر مرافعة الرئيس التركي، أردوغان، أمام المستشارة الألمانية، ميركل، عندما تحدّثت حول مسمّى الإرهاب الإسلامي، بل يتعلّق الأمر بمحاولة توجيه الرأي العام الفرنسـي، والغربي عموما، إلى تبنّي تعريفاتٍ للتّطرّف تحول دون انتقاد الصهاينة، أو صفقة القرن، كما أنّها تتعلّق بكلّ من يحاول الإشارة إلى استخدام القوة المفرطة، بناء المستوطنات، أو حتى دفع الفدى لتحرير الرهائن الغربيين، ما يمكّن الإرهابيين من التسلّح، وشنّ هجماتهم على المسلمين الذين هم ضحايا الأغلبية الغالبة من أعمالهم المتوحشة التي تُنسب، في ما بعد، إلى الإسلام، والجميع يعلم أنّ المسلمين، من ذلك، براء تمام البراءة.

محاولة توجيه الرأي العام الفرنسـي، والغربي عموما، إلى تبنّي تعريفاتٍ للتّطرّف تحول دون انتقاد الصهاينة

هناك المسألة الأخرى التي يتشدّق بها هؤلاء، وهي اعتبار التّطرّف مرادفا لرفض تلك التّعريفات الجديدة لأوضاعٍ يصنعها الظّلم والاستخدام الفعلي لقوّة مفرطة أو التّلويح باستخدامها، وهي المسألة الخاصّة بحرّية التّعبير، باعتبار أنّ رافض هذا الوضع الثّقافي المزعوم هو معاد لحرّية التّعبير التي لا تعني إلّا إمكانية التّطرّف في الاعتداء على رموز مُقدّسة لأديان أخرى، ولثقافاتهم. ولعلّ الإسلام، هنا، هو المعني بتلك الاعتداءات التي يبرّرها الغرب، ويحاول اعتبارها على غرار قضية معاداة السامية لكل من ينتقد الصهيونية أو الاعتداءات التي تقترف في حق الفلسطينييـن.

عند الرّبط بين القضيتين، نصل إلى الفهم الجديد لتلك القضايا، ومحاولة تشكيل العقل، ليفهم الجميع، مستقبـلا، والعرب والمسلمون أولهم، أنّ معاداة السامية التي تم تجريمها بقرار أممي، باعتبار أن معاداة التّطبيع، صفقة القرن أو الاعتداء على الرّموز، هي تطـــرّف ومعاداة لحرّية التّعبير، وهو ما يبرّر التّعامل معه بهمجية الاعتقال أو الإغلاق لجمعيات وأماكن العبادة، وهي كلّها مساراتٌ تبرّر الاتّجاه نحو سياساتٍ أكثر تشدُّدا مع المهاجرين، الهجرة وثقافات الآخرين. وهي، أيضا، مبرّرات الاتجاه نحو سياسات أكثر يمينيةً، توصل السّياسيين إلى الاستفادة من أصوات الناخبين في المواعيد الانتخابية المقبلة، بالإضافة إلى تبرير أسباب البطالة والأوضاع الاقتصادية الصّعبة التي تواجهها الرّأسمالية، والتي ستزداد صعوبة مع تداعيات الجائحة على الاقتصاد العالمي.

الحقيقة التي يجب أن تُقال، بالنتيجة، إنّ إعادة تشكيل الفهم لتلك القضايا هي مواجهة لقضايا دولية شائكة تتعلّق، أساسا، بتصفية القضية الفلسطينية، بشكل نهائي، وتعليق حلّ المسائل الاقتصادية إلى إشعار آخر، بإيهام الناس، في الغرب، بأنّ الخلافات ذات صلة بحرب حضارية/ ثقافية/ دينية، وليس شيئا آخر. وتقتضي، لذلك، معالجةً بأدواتٍ غير تلك التي سعت إليها منظمات اليسار وجماعات السُّترات الصّفراء من احتجاجات وإضرابات، حيث إن الحرب وجودية مع الآخر الذي هو، كما قال الفيلسوف الفرنسي سارتر، يوما، متهكّما، هو سبب المشكلات. وعلينا أن نصبّ عليه جامّ غضبنــا وتحميله وزر الأوضاع المتردّية التي وصلنا إليها، وهي، كما نرى، حجج اليمين المتطرّف الذي أصبح، للمصادفة، حليف الصهيونية في معاداة الآخر، أينما وُجد وكيفما كان انتماؤه الحضاري، الديني أو الثّقافي.

التطرّف كلّ اتّجاه، في عرف الفرنسيين، يحول دون فرض رؤى للتّاريخ، للحياة أو للعلاقة بين السلطتين الروحية والزمنية

ننتهي إلى محصلة مفاهيمية، تجمعها منظومة فكرية، سياسية في المنشأ، وأيديولوجية في التبرير، تبحث عن مساراتٍ للهيمنة، بعيدة عن منطق المبادئ التي يدعون إليها، لأن حقوق الإنسان، كرامة الإنسان، مبادئ جنيف للاجئين وأسرى الحرب وغيرها من الأخلاقيات، إنما وجدت منهم ولهم والآخر، إنما هو ضحية لدورات الرّأسمالية بين نمو وكساد وأزمات إعادة الهيكلة. ولهذا رأينا تصاعدا في موجد عملية إعادة تشكيل العقل، تمهيدا لتعزيز أوضاع جديدة، جاءت عقب أزمة القروض العقارية الأميركية في 2007، وتزداد تأزُّما مع جائحة كورونا التي ستنهي نقل العالم إلى مرحلة رابعة من تحوّل شكل السّلطة، وفق ما تصوّره عالم المستقبليات الأميركي، ألن توفلر، من عالم زراعي إلى عالم صناعي، ثم عالم معرفي، وصولا إلى العالم الرقمي، بتكريس سلطة الخوارزميات، بشكل نهائي، على العالم.

نحن، إذن، أمام معركة وجودية، من حيث وجوب فرض جدلية التعريفات للمفاهيم ومقارعة الحجة بالحجّة مع الدعوة إلى رسم خطوط حمراء في معاني حرية التعبير، أو حدود التطرّف، كما سنحتاج إلى تغيير أوضاعنا، حتى نعزز وجودنا المعرفي والحضاري، ونكف أيدي الغرب على اعتبارنا لقمة سائغة في التعرّض لرموزنا ومقدّساتنا، لأن حرية التعبير التي لا تريد الانتقاص من ذاكرة أيّ شعب يجب أن تكون كذلك للجميع، بعيدا عن ازدواجية المعايير والتّركيز على أتباع ديانة واحدة في وسم كلّ أبناء الأمة ودينها بسبب بعض الجانحين من أبنائها وقيامهم بأعمال يعلم الجميع أنّها ليست من صميم ديننا ولا مبادئنا الحضارية.