عندما تسقط البقرة

عندما تسقط البقرة

01 نوفمبر 2020
+ الخط -

سقطت البقرة، أخيرًا، وصار في وسع الجزّارين المترددين، من أمثال رئيس مجلس الأعيان الأردني، فيصل الفايز، أن يدلوا بسكاكينهم، فقد صارت الذبيحة أضعف من أن تقاوم أقلّ الذبّاحين خبرة. في مقدورنا الآن أن نشهر الموت صراحة، ليصبح "قصة موت معلن" إن أردنا، فقد كثر النعاة على قبر "الربيع العربي"، غير أن الناعي، هذه المرّة، لم يكتفِ بالنعي وحسب، بل راح يعدّد "مساوئ الفقيد" أيضًا، خلاف ما جرت عليه عادات العزاء في بلادنا، من احترامٍ وتوقيرٍ للميّت، إرضاء لأهله وجبرًا لأحزانهم وفجائعهم على أقل تقدير. غير أن فيصل الفايز لم يفعل، حين أجاب عن سؤال صحافي أخيرًا، حول أسباب فشل الحكومات الأردنية المتعاقبة في تحقيق الاستراتيجيات التنموية التي وضعتها للنهوض بالبلاد، فكان واضحًا من إجابته أنه يحمّل ثورات الربيع العربي التي اندلعت بواكيرها العام 2010 القسط الأوفر من مسؤولية هذا الإخفاق، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين اتهم الربيع العربي بأنه "أعاد الأمة العربية عشر سنوات إلى الوراء".

والحال أن هذا التصريح، حصرًا، استوقفني من بين سائر تصريحات النعي والاتهامات وعبارات القذف واللعن التي تلقّاها الربيع العربي على ألسنة رسمية في غير بلد عربي، لموجباتٍ متعدّدة، منها أن التصريح يرد على لسان رئيس مجلس تشريعيّ، يشترك مع مجلس النواب في تبنّي الهمّ الشعبيّ الذي جاء الربيع العربي معبّرًا عنه في الأساس، غير أني سرعان ما نحيّت العجب، عندما تذكرت أن المجالس التشريعية العربية، في أغلبيتها، ليست غير أبواق احتياطية للسلطة، وموطّد إضافي لأركانها، ومن العار أن تُحسب على "الرأي الآخر".

استوقفتني، أيضًا، لغة الأرقام التي تحدّث بها الفايز، وتساءلت إن كان الرجل يتعّمد المزامنة بين ميلاد الربيع العربي قبل عشر سنوات و"جمود التنمية" الذي بدأ، أيضًا، قبل عشر سنوات، وفي هذا تأكيدٌ استنتاجيّ "مُفحِم" للخلاصة التي وصل إليها الفايز عن "إعادة العجلة" إلى الوراء.

لا أدري، حقًّا، أي استخفافٍ يحمله مثل هذا التصريح البائس بالعقول، والذي يجيء ليحمّل الضحية وزر استفزاز الجلّاد، متجاهلًا أن هذه الجموع العربية التي احتشدت في الشوارع لم تخرج من بيوتها إلا احتجاجًا، في الأصل، على قطار التنمية الذي لم ينطلق من محطته الأولى مطلقاً، بل توقف عند أول "رجل ثلجيّ" تولى سدّة الحكم في المنطقة العربية، بعد رحيل الاستعمار، ولم يذبه هجير أو صفير حتى اليوم. وليت المذيع السائل وجّه سؤالًا واحدًا للفايز: لو أن الربيع العربي لم يكن.. هل كانت عجلة التنمية والحرية ستمضي إلى الأمام؟

لسنا في وارد تعداد موجبات الربيع العربي ودوافعه، فهي أغزر من أن يحيط بها سردٌ واحد، على الرغم من أن الميلاد العاشر له يستحقّ أزيد من وقفة عزاء مضادّة لوقفة الشامتين به؛ لكن يكفينا أن نقول إن هذا الربيع يكاد يكون الفصل الوحيد المشرق في حياة الأمة منذ عقود، ويكفي أنه أقنعنا، ولو مرّة واحدة، أن في الوسع إطاحة الاستبداد في صحاري الربع "الخالي" العربية مهما فدح الثمن.

كما أخذني التساؤل إلى تصريح للعاهل الأردني قبل نحو تسعة أعوام، يناقض ما يقوله الفايز اليوم، جملة وتفصيلًا، عندما أبدى الملك انحيازه لثورات الربيع العربي بوضوح بالغ، عندما قال إن هذا الربيع يشكّل "مناخًا حافزًا لنا في الأردن، على الإصلاح، وفرصة حقيقية نسعى لاغتنامها بتجديد العملية السياسية، بما يجعل الأردن أنموذجًا إصلاحيًّا في المنطقة"، فكيف نفسّر تناقضات التصريحات في دوائر صنع القرار العليا في الأردن. وإن صحّ وجود التناقض فذلك يعني باختصار وجود قوى شدّ عكسي تتسنّم مناصب رفيعة، وتقف ضد التحرر والديمقراطية والمجتمع المدني.

وما دمنا في مقام العطالة و"التعطيل"، يحسن بنا، إذن، أن نؤشّر على الفاعل الحقيقي في تعطيل مسيرة التنمية والإصلاح والديمقراطية، في الوطن العربي، ليس دفاعًا عن "البقرة" التي نفقت مرحليًّا، بل عن خيول الحرية المقبلة التي ستملأ الشوارع مجدّدًا؛ لأنها وحدها الكفيلة بدفع عجلة التنمية إلى الأمام.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.