علي قزق... الرحيل على دروب المنفى
ها هو الشقاء الفلسطيني يتجسد مجدّداً، ولكن في تايلاند هذه المرّة. هناك في ذلك المطار النائي، وبينما كان علي قزق على وشك الإقلاع نحو فلسطين، فاجأه الموت. يا لهذه القسوة التي لا تُحتمل. وعلي قزق واحد من الفلسطينيين الذين تناثروا في بلاد العالم البعيد، وماتوا مجرّدين من هوياتهم الأصلية ومن روابطهم الإنسانية؛ رحلوا إما اغتيالاً (محمود الهمشري ووائل زعيتر وعز الدين القلق) أو فقعوا كمداً (إبراهيم أبو لغد وعلي قزق). وحكايته في اللجوء والغربة دراما إنسانية بالغة الحرارة والثراء العاطفي تصلح لأن تكون فيلماً سينمائيّاً أو مسلسلاً تلفزيونيّاً. فقد ولد علي قزق في 1947 في قرية الكبابير الواقعة على إحدى تلال جبل الكرمل المتعامد مع مدينة حيفا. وعلى جبل الكرمل، ثمّة ثلاث قرى عربية فقط: دالية الكرمل وعسفيا والكبابير. وهناك ولد ذاك الفتى الذي سيرافقه الشقاء ويختزن في أعطافه الثورة على واقع الحال وعلى وقائع الحياة.
كان والده إبراهيم علي قزق تاجراً متوسّط الحال، يمتلك متجراً للمواد الغذائية عند جامع الاستقلال في أسفل وادي الصليب قرب سوق الشوام. وجامع الاستقلال هو الذي شهد الخطب الوطنية النارية للشيخ عز الدين القسام بن مدينة جبلة السورية. ومثل كثيرين من تجار حيفا، كانت دمشق مقصدهم الدائم. وفي إحدى زيارات إبراهيم قزق إلى دمشق تعرف إلى عائلة النويلاتي وخطب إحدى بناتها التي تدعى وصفية، وعُقد القران في دمشق في 1944. ثم سافرت هذه الفتاة التي ستصبح والدة علي إلى حيفا بالقطار في 1945 يرافقها شقيقها علاء. وبعد ولادة علي بنحو عشرة أشهر، وصل إلى العائلة في الكبابير خبر عن مرض الجد في دمشق. وكان على الوالدة أن تسافر إلى الشام لرؤية أبيها قبل ضجعته الأبدية. وبالفعل سافرت من حيفا إلى بيروت ثم إلى دمشق في 1948.
سقطت حيفا في أيدي القوات الصهيونية في 23/4/1948، وتبعثرت عائلة قزق بين لبنان وسورية والأردن
سقطت حيفا في أيدي القوات الصهيونية في 23/4/1948، وتبعثرت العائلة بين لبنان وسورية والأردن. وحالت الأمور القتالية آنذاك دون عودة الأم وابنها الرضيع من دمشق إلى حيفا، فيما ظلّ الوالد في مدينته يأمل في إمكان لم شمل عائلته بواسطة الصليب الأحمر، فلم ينجح. أما والدة علي فقرّرت، حيال هذه الواقع اللئيم، أن تتحدّى الحدود الجديدة، فتركت ابنها عند أهلها، وسافرت في 1952 إلى عمّان، ومنها تدبّرت أمرها لتعبر نهر الأردن إلى قرية عتّيل في الضفة الغربية، ثم لتجتاز الوديان والتلال ماشية إلى حيفا. ومن حيفا أقلتها سيارة إلى قرية الكبابير، وفاجأت زوجها ووالدته اللذيْن غمرهما سرور عارم. لكن هذا السرور لم يدُم غير ليلة، فقد كانت السلطات الإسرائيلية لهم بالمرصاد، فاقتحمت شرطتها المنزل لتستاق الوالد والوالدة إلى مركز الشرطة للاستجواب والتحقيق. ثم نُقلت الوالدة إلى سجن النساء في يافا، ورفضت المحكمة إخلاء سبيلها بكفالة مالية. وبعد 47 يوماً من السجن، صدر الأمر بإبعادها إلى لبنان. وفي لبنان، سجنت عدة أيام لاستنطاقها، ثم أُخلي سبيلها فعادت إلى دمشق. ومنذ ذلك الحين، بدأت المرحلة الثانية من مأساة تلك العائلة التي عاش الوالدان في غمارها كلّ في مكان: الوالد في حيفا والوالدة مع إبنها في دمشق، ولا سبيل إلى اللقاء.
في سنة 1955 انفصل الوالدان رسميّاً بعد أن استحال لم شمل العائلة. وتزوّجت الوالدة في دمشق في سنة 1956، وأنجبت ابناً وابنة، وتزوج الوالد في حيفا في سنة 1959، وأنجب ابنين وأربع بنات، وهؤلاء سيصبحون إخوة لعلي قزق الذي عاش في محلة باب سريجة في الشام كأحد أبنائها، لكنه ظلّ وحيداً ويتيماً بلا أب، على الرغم من أن والده كان حيّاً في وطنه، ومع أنه لم يعانِ نقصاً في العاطفة أو المال، فقد غمرته جدته لأمه، وكذلك أخواله وخالاته وأعمامه الذين لجأوا إلى دمشق، بالحب والرعاية والحنان. لكن جمرة التمرّد وحرقة الانفصال أنضجتا وعي هذا الفتى الذي لم يشاهد والده إلا بعد فراق دام 48 عاماً، وفي البيت الذي وُلد فيه.
مضى علي قزق إلى إغفاءته الأخيرة، حزيناً على ما أصاب شعبه
سافر علي قزق إلى الكويت في 1966، لكنه لم يحتمل العيش بعيداً عن دمشق، فاستقال من عمله، وعاد إلى سورية بعد أقل من أربعة أشهر. وفي 1968 انضم إلى حركة فتح. لكنه لم يلبث أن سافر إلى الدنمارك في 1969 للدراسة والعمل مثل كثير من الفلسطينيين اللاجئين آنذاك. غير أن أحواله في الدنمارك غيّرت توقعاته، فقدم طلباً للهجرة إلى أستراليا وطلباً للهجرة إلى كندا. وحين نال الموافقة على الهجرة إلى أستراليا في 1970 سافر على الفور. وفي 1972 بدأ يتواصل مع والده بالبريد، وحاز الجنسية الأسترالية في 1973، وتوّج نضاله الوطني الذي لم ينقطع بتعيينه سفيراً لفلسطين في أستراليا ونيوزيلاند في سنة 1982.
اعتاد علي قزق أن يأتي في كل سنة إلى بلاد الشام، فيزور فلسطين، ويلتقي أخوته في الكبابير، ثم ينصرف إلى دمشق ليعيد إلى نفسه دفء عائلته التي افتقدها، مع أنه تزوّج وأنجب أولاداً. وفي أثناء وجوده في دمشق، كان لا بد أن يعرّج لأيام عدة على بيروت. وقبل نحو عشرة أيام، اتصل بي قائلاً إنه يريد نسخاً من كتابه "أستراليا وفلسطين: نضال في المنفى البعيد – سيرة ذاتية" (2025)، فأشرت عليه أن يأخذ النسخ من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – فرع عمّان، قبل أن يغادرها إلى فلسطين. وكنتُ أنتظره في بيروت كالعادة. وإذا بخبر الموت يهبط علينا كحجر أُلقي على رأسنا من السماء.
على تلك الدروب الصعبة بين أستراليا وفلسطين مضى علي قزق إلى إغفاءته الأخيرة، حزيناً على ما أصاب شعبه. هكذا هي مصائر كثيرين من الفلسطينيين، أمثال علي الذي وُلد في خضم الأحزان ورحل في ذروة الألم.