علي فرج يطمئنكم على فلسطين

علي فرج يطمئنكم على فلسطين

14 مارس 2022

البطل علي فرج من مواليد زمن التطبيع

+ الخط -

نظريًا، ولد بطل الأسكواش المصري العالمي، علي فرج، في مناخٍ مشبع بأبخرة التطبيع المتصاعدة بقوة من أفران السياسة المصرية والعربية، على النحو الذي جعل محبّي فلسطين يخشون عليها من أجيالٍ عربية قادمة، أكثر من الخشية من اعتداءات الاحتلال الصهيوني.
كان الخوف، كل الخوف، من أجيالٍ تولد وتنشأ في مناخاتٍ تعليمية وثقافية وإعلامية، تأمر بالتطبيع وتنهى عن المقاومة، وتفرض ما تسمّى ثقافة السلام، الإسرائيلي بالطبع، بديلًا لما استقرّ وترسّخ في أعماق الوعي العام نصف قرن، أن إسرائيل كيان مغتصب واحتلال إجرامي، وأن فلسطين قضية كل عربي مسلم ومسيحي، ولا تخص الفلسطينيين وحدهم.
ثقافة السلام هذه وجدت دعمًا هائلًا على كل الأصعدة، محليًا وإقليميًا وعالميًا، فنسفت من أجلها مناهج التعليم نسفًا، وانعقدت لها المؤتمرات، وأنتجت خصيصًا لها أفلام سينمائية فاخرة الصنع وتكوّنت جمعيات وتشكلت كيانات، وسيّرت الزيارات والأفواج، السياحية والسياسية، فيما حورب رافضو هذا المسار داخليًا وخارجيًا.
البطل علي فرج، لقّن العالم درسًا في العدالة والاستقامة، وانتصر لفلسطين في محفل رياضي دولي أقيم في لندن قبل يومين، حين وجد تيارًا جارفًا من التعاطف، المستحق، مع مأساة الشعب الأوكراني مع الاحتلال الروسي، فقرّر أن يذكّر ضمير العالم باحتلال أبشع وأسوأ عمره 74 عامًا في فلسطين الحبيبة.
تحدّث الشاب ببساطة وبمنطق هادئ، مستثمرًا أفضل استثمار لحظة لم يعد الخلط بين السياسي والرياضي فيها مجرمًا، فأعلن تعاطفه مع أوكرانيا، مستدعيًا مأساة احتلال فلسطين، وهو الموقف الذي خطف القلوب والأبصار، وفرض نفسه نموذجًا للاستقامة والنزاهة في تقييم الأمور بمعيار واحد.
اللافت هنا، والذي يسترعي الانتباه أكثر، أن بطل هذه الموقعة ولد في مصر عام 1992 في ذروة المدّ التطبيعي الذي حاصر الناس عبر الصحف والشاشات والعلاقات الرسمية التي جعلت للصهاينة سفارةً وعلمًا يخرج لسانه للنيل كل صباح، ويلوّح بإشارات الكيد والشماتة للهرم الأكبر، الذي أصبح في متناول رؤية السفير الصهيوني، من أعلى تلك البناية المطلّة على الجسر المؤدي إلى جامعة القاهرة .. تلك البناية التي مات فيها، كمدًا، الكاتب القومي الكبير محمود عوض، بعد نضال قانوني وقضائي أكثر من عشرين عامًا، لإغلاق السفارة وطرد السفير، الذي كان يغيظ سكان العمارة في صعوده وهبوطه.
ولد علي فرج قبل عام من اتفاقية أوسلو 1993 التي أكملت ما أنتجته "كامب ديفيد" من كوارث على القضية الفلسطينية، ومنحت العدو الفرصة للتوغل في مساحاتٍ أكبر وأعمق في الواقع العربي، إذ نشطت رياح التطبيع في القاهرة، وبلغت سرعتها حدًا مخيفًا، مع الاندفاع نحو تأسيس لوبيات التطبيع الثقافي والاجتماعي، فبدأ الكاتب لطفي الخولي، ومعه نفر من الكتاب والمثقفين، منهم أسامة الغزالي حرب وعبد المنعم سعيد، بإجراءات تأسيس ما عرفت بجماعة كوبنهاغن التي دشنت نشاطها في قلب القاهرة، فجاء ديفيد كمحي، الموظف السابق في الموساد الإسرائيلي، والشخص الذي قيل إنه كان مكلفًا بمهمة اغتيال جمال عبد الناصر في الستينيات، ليعلن من قلب القاهرة  من خلال مؤتمر تجمع كوبنهاغن أن هذه أول مرة يوجد فيها ستون إسرائيليا معا في القاهرة في مؤتمر عام.
في تلك الأجواء، ولد جيل البطل علي فرج، وجاءت أجيالٌ بعده، درست وتعلمت وترعرعت في واقع رسمي بات يرى في العدو الصهيوني جارًا وشريكًا وحليفًا، ويقف على مسافةٍ واحدةٍ بينه وبين فلسطين، بل ولا يخفي عداءه المقاومة الفلسطينية، ويطلق مثقفيه وإعلامييه ينهشون في وعي الناس ووجدانهم، فينزعون القدسية عن المسجد الأقصى، وعن القدس نفسها، ويسفّهون المقاومة، ويسخرون من داعميها، ويحتفلون بمدّ أنابيب الغاز الطبيعي المستورد من الاحتلال.
جيل شاهد وزير خارجية مصريًا (أحمد أبو الغيط) يتأبط ذراع وزيرة خارجية العدو، ويعلن أنه ستُكسر قدم كل فلسطيني يقترب من الأراضي المصرية، لينطلق بعدها مباشرةً العدوان الإسرائيلي على غزّة .. ويذهب وزير خارجية مصري، آخر (سامح شكري) بعد عشر سنوات لمشاهدة نهائي البطولة الأوروبية في منزل رئيس حكومة الاحتلال، ويتناول العشاء، ويقضي السهرة.
كل هذه الأجواء التطبيعية العنيفة كانت تُنذر بأننا بصدد أجيال ممسوخة التكوين، لا تتهجّى حروف فلسطين .. أجيال تصوّر المتحكمون في تشكيل وعيها وثقافتها ووجدانها أنها ستأتي متوافقة مع النظام الشرق أوسطي الجديد، لكن علي فرج جاء ليبشّرنا بأن فلسطين قضية عصية على التذويب أو المحو أو النسيان.
شكرًا علي فرج الذي يجدّد أملنا، ويطمئننا على فلسطين، وشكرًا مضاعفًا لمن علّمه أبجدية فلسطين.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا