على هامش معرضٍ للكتاب

على هامش معرضٍ للكتاب

09 يونيو 2022
+ الخط -

عرفت صناعة الكتب وأساليب نشرها تطوراً كبيراً خلال عقود القرن الماضي وسنواته. لم تعد تُطْبَع بمواصفات واحدة متشابهة، بل تطوّرت ونوَّعت أشكالها بتنوّع تقنيات الطباعة والورق والتصفيف وصناعة الأغلفة وتطورها. أصبح عالم الكتاب يقدّم اليوم منتوجات بمواصفات وأنماط متعدِّدة، منها الكتب المتخصصة في علوم ومعارف بعينها، والكتب التي تؤرّخ لِمِهَنٍ وحِرَفٍ وصناعات، إضافة إلى ما أصبح يُعْرَف بكتب الجيب ذات التسعيرة المنخفضة، والكتب التي توصف بالكتب الجميلة، وقد ارتبط هذا الصّنف بطقوس الهدايا وكتب الزينة، التي توضع في المكاتب والصالونات، قصد إضفاء جمالية معينة على الروافع التي تحملها والأمكنة التي توجد فيها.

تطوّرت صناعة الكتب بتطوُّر الصناعة وتقنياتها، وأصبحت الكتب الملوّنة، في بعض التخصصات المعرفية، مثل الطب والفلك والجغرافيا وكتب الأطفال، تتّخذ أحجاماً وأشكالاً جديدة ومتنوعة. وازداد الأمر تطوّراً وجمالاً بتطوّر تقنيات التصوير والورق والألوان، الأمر الذي يجعلها مَحَطَّ عناية مَن أُعِدَّت من أجلهم. والإشارة هنا، على سبيل التمثيل، إلى الكتب المتعلقة بمظاهر الطبيعة، مثل كتب الحيوانات وكتب علوم البحار والكتب التي تُعْنَى بالجغرافية الطبيعية، حيث أصبحت صناعة الكتب تكشف عن تحوّلاتٍ تُضاهي ما يحصل في مختلف الصناعات. ففي العقود الأخيرة من القرن الماضي، ظهرت كتبٌ تحمل أسماء ألوانها، الكتاب الأبيض والكتاب الأزرق، على شاكلة كتب أخرى، ارتبطت إما بأشخاص أو أحداث معينة، أو تيارات فكرية، مثل الكتاب الأحمر والأخضر والأبيض .. إلخ. حيث حَرِصَت مؤسساتٌ ومنظمات دولية على إصدار برامجها وإجراءاتها في العمل، في كتب بيضاء ترسم المعالم الكبرى لخياراتها وطرقها في العمل. وأعتقد أن المَأْثُرَة الكبرى لتطور الكتاب وتطور صناعته حصلت في الربع الأخير من القرن الماضي، عندما لاحت تباشير العلامات الأولى للكتاب الرقمي، وأصبحت مجتمعات المعرفة تنخرط في إنتاج (وإعادة إنتاج) ما أصبح يُعرف بالكتاب الرقمي، الصيغة الثورية لكتاب الحاضر والمستقبل.

أصبحت التقنية اليوم في مجتمعاتنا من مظاهر الوجود، وأصبح عصرُنا فعلاً "عصر التقنية"

يدفعنا ظهور الكتب الرقمية إلى التساؤل عن بدائل معارض الكتب، كما يدفعنا إلى تهييء مجتمعاتنا للاستعداد لتوديع الحضور المكاني المُجَسَّم للكتاب، الحضور الذي استأنست به البشرية قروناً ومنحته امتياز حفظ إبداعها وثقافتها وموروثها الرمزي، فقد بدأت البشرية اليوم، تحت تأثير الثورة المرتبطة بما يسمّى عصر المعلومات، ولوج فضاءات جديدة، بدأت تمريناً جديداً في القراءة والكتابة والمعرفة والعمل، يدعوها، على الرغم من كل صعوباته، إلى التخلي عن عاداتٍ معينة، والاستئناس بنوعيةٍ أخرى من الكتب، وقد اتخذت شكل ألواحٍ إلكترونية تحمل سِجِلّاتٍ هائلةً من النصوص، ألواح ملوّنة ومضيئة، يكفي أن يمارس الذي يتوفر عليها برقة وبساطة، عمليات نَقْرٍ ناعمةٍ على علاماتٍ مرسومةٍ على وجهها، علاماتٍ تظهر وتختفي، وقد هُيِّئَت لتعرض أمامنا غِلال الكتب التي نَوَدُّ مُعاقرتها والانغماس في عمليات الاستمتاع الذهني بخيراتها ومنجزاتها المعرفية والوجدانية.

تذكّرت بعض أوجُه تطور الكتب في التاريخ وأشكاله، وأنا أستمع إلى خبر انعقاد المعرض الدولي للكتاب، الذي عاد إلى الانعقاد في دورته السابعة والعشرين، في الرباط (3 - 12 يونيو/ حزيران 2022) احتفاءً بالكتاب والنشر. تذكّرتُ، وأنا أستحضر حَدَث انعقاده، أسئلةً أصبحت تُطْرَح في السنوات الأخيرة في موضوع نهاية الكتاب الورقي، أمام الهجوم الكاسح للكتاب الرقمي ومواقعه في فضاءات التواصل الرقمي، وحوامله المضيئة والمستوعبة لمآت الآلاف من الكتب.

تنخرط البشرية اليوم في لحظة تجمع فيها بين مآثر الكتابين الورقي والرقمي ومزاياهما، أما معركة الفصل بينهما فإنها لم تُحْسَم بَعْد، وذلك على الرغم من كل أشكال التفوًّق والنجاح التي تمنح اليوم لتقنيات التواصل الرقمي في صناعة الكتب، إمكانية بَسْط نفوذها الْمُتَدَرِّج والقوي على مختلف أوجه الحياة، حيث تضاعفت، في السنوات الأخيرة، سرعة إيقاع تطور تقنيات صناعته، الأمر الذي أنتج فضاءاتٍ شملت مختلف مظاهر الحياة، وترتّبت عن أنماط حضورها في المعرفة والاقتصاد والمجتمع إشكالات عديدة، تستدعي اليوم بدورها مدوّنات جديدة من القيم والقوانين القادرة على ضبط حدود الطَّفْرَة التقنية، التي نتجت عن مجتمع المعرفة في عصر المعلومات، حيث أصبحنا أمام فضائين، فضاء الواقع والفضاء الرقمي، وفي قلبهما يقف الكتاب الورقي بجانب الكتاب الرقمي، الأول عنوان تاريخٍ متواصل والثاني عنوان تاريخٍ قادم.

تتّجه التقنية الرقمية لإنتاج حوامل جديدة للتخزين المعرفي، تفوق ما حملته آلاف الخزانات والكتب الورقية

نُدرج الكتاب الرقمي ضمن الآليات الجديدة المتولِّدة عن مجتمع المعرفة، آليات التفاعل الإلكتروني، حيث يساهم التفاعل المذكور في نقلنا من الإدارة التي تعتمد الأوراق إلى إدارة غير ورقية، ومن سوقٍ يعتمد على العرض إلى سوقٍ يُرَكِّبُ الطلب في الواجهة، ومن الثقافة الوطنية إلى المثاقفة، ومن ندرة المعلومات إلى تخمة المعطيات وسيولتها المتدفِّقة، حيث يتجه العالم إلى ترسيخ آليات في التعولم تحكمُها أنظمة الشبكات. لقد أصبحت التقنية اليوم في مجتمعاتنا من مظاهر الوجود، وأصبح عصرُنا فعلاً "عصر التقنية". وترتبت عن التقنيات الصانعة لكثير من مظاهر حياتنا، حتى عندما نستوردها، تجليات متنوعة، أبرزها: توحيد أنماط العيش والتفكير، تصنيع النشاط الثقافي والسياحي، اجتثات المكان والزمان، فقدان الشعور بالقرب، الاستهلاك الزائد، التخطيط والبرمجة إلخ.. استنفاد الثروات الطبيعية، تشكيل مذخرّات هائلة من الطاقة .. إلخ. ففي هذه المظاهر والسمات ما يحدّد دور التقنية في التنميط والتوحيد، وفيها ما يكشف، في الوقت نفسه، الملامح الكبرى لأسئلة جديدة نحن مدعوون إلى بنائها، وبناء مقترحاتٍ في موضوع إيجاد حلول لها.

لقد أصبحنا في خضم ثورة تقنية جديدة، شمل مفعولها أنظمة الحياة والمعرفة. الأمر الذي ولَّد ازدهاراً لا مثيل له في المجال المعرفي، والكتاب الرقمي أحد أبرز مظاهره، حيث تتّجه التقنية الرقمية لإنتاج حوامل جديدة للتخزين المعرفي، تفوق ما حملته آلاف الخزانات والكتب الورقية، حوامل تتمتع بقدراتٍ في الجمع والتخزين يبدو أنها لانهائية. ونتصوَّر أن هذا الأمر سيمارس ثورةً في قدراتنا الذهنية المتمثلة في التذكّر والتمثل والإبداع. لنشارك في معارض الكتب هنا وهناك، حيث تجري أمامنا منذ سنوات عمليات توديع الكتاب الورقي بكثير من الرِّقَّة والهدوء، في انتظار أن نبتكر الفضاءات القادرة على احتضان الكتاب الرقمي، وأتصوَّر أنها ستكون فضاءاتٍ لا أرض ولا سماء لها.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".