على ماذا يبتهجون؟

على ماذا يبتهجون؟

31 مايو 2021

مؤيدون للأسد يحتفلون بفوزه في حلب (27/5/2021/فرانس برس)

+ الخط -

من حق العاقل أن يستغرب ابتهاج المبتهجين في سورية بنتائج "الانتخابات" الرئاسية. لا شك في أن هناك من شارك في الاحتفالات لأنه مستفيد من بقاء حال سورية على هذا الشكل الذي يسمح له بالمشاركة في النهب والتشبيح على الناس، وهؤلاء أقلية يهلّلون من قلوبهم كما تشاء لهم الأجهزة الأمنية ومتى شاءت. وهناك بؤساء يشاركون لأنهم يخافون من الأسوأ، من أن تضع هذه الأجهزة ملاحظاتٍ سوداء على سجّلاتهم يدفعون ثمنها تالياً من دماء قلوبهم. وهناك من يشاركون لمجرّد أن هناك احتفالاً ودبكةً بصرف النظر عن المناسبة، وهذا ينطبق على الشباب بنسبة كبيرة. ولكن هناك بؤساء يشاركون إما عن قناعة، وربما الأدقّ عن شعور بأن "الرئيس" يقف في وجه العالم كي يحميهم من خطر غامضٍ يتهدّدهم، خطر تجسّد، في لحظةٍ ما، بتنظيماتٍ إسلامية لا تتحمّل الاختلاف، وتهدّد نمط حياة الناس ومسالكهم اليومية المعتادة، أو أنهم يشاركون ويحتفلون من دون تفكيرٍ في سلوكهم هذا، وربما لا يجرؤون على التفكير به، لا بل يتّخذون، كما لو بصورةٍ غريزيةٍ تحت تأثير العجز والاعتياد، موقفاً سلبياً ممن يحرّض لديهم التفكير. هؤلاء ينساقون مع التيار العام، كما في المسالك الطقوسية التي تستقل عن التفكير، وهم يكرّرون عباراتٍ ثابتةٍ ومحفوظة من دون تفكير، ويبدون من الانفعال وحرارة "الصدق" ما تستوجبه الطقوس.

لو خرجت النتيجة، من باب الخيال والافتراض، لصالح مرشّح من المرشّحين المسكينين الآخرين، لوجدنا الفائز خائفاً ومرتعداً، ولا يجرؤ على الاقتراب من القصر الرئاسي

استغراب حفلة الابتهاج، عقب إعلان النتائج، ينبع من السؤال: هل كان أحد في سورية (أو خارج سورية) يشكّ لحظة في أن النتيجة ستكون على غير ما خرجت؟ هذا أمرٌ منتهٍ ومفروغ منه. حتى لو خرجت النتيجة (من باب الخيال والافتراض فقط) لصالح مرشّح من المرشّحين المسكينين الآخرين، لوجدنا الفائز خائفاً ومرتعداً، ولا يجرؤ على الاقتراب من القصر الرئاسي، ولا شك في أنه سوف يلعن الساعة التي فاز فيها، ويشكو من ناخبيه على ما أوصلوه إليه من خطر، وسوف يعتذر للوريث الجمهوري عن الفوز، ويتبرّع له بفوزه عن طيب خاطر، راجياً منه أن يخلّصه من هذه الورطة التي وجد نفسه فيها رئيساً لجهازٍ دولة مغلق في وجهه، ولا يملك مفتاحه سوى الوريث، فكيف "لدولة الأسد"، بجيشها ومخابراتها وبيروقراطيتها المنتقاة على الولاء، أن يقودها غريبٌ من خارج العائلة. وربما سارع هذا الفائز إلى طلب اللجوء السياسي على الفور إلى أي مكان في العالم يمكن أن يستقبله.
في مصر التي شهدت انتخابات ديمقراطية مراقبة ونزيهة إلى حد لا بأس به، وجد الرئيس المنتخب، محمد مرسي، نفسه ضعيفاً أمام جيش وبيروقراطية دولة غير مرحّبة به، وغير متعاونة، ولم يصمد على هذه الحال سوى سنة واحدة، من دون أن يلغي هذا مسؤوليته ومسؤوليه حزبه عما انتهى إليه الحال. فما بالك بمرشّح لا يملك شيئاً من القوة أمام "دولة الأسد".

باستمرار الوريث سوف تستمر آلية حكمه وطاقم حكمه وسياساته القائمة على القمع الرهيب، وعلى تقسيم الشعب السوري لكي يواصل حكمه

هذه البهجة الصاخبة في سورية، إذن، لا تعبر عن زوال قلق ما، كان يتهدّد نفوس المبتهجين قبل النتائج ثم زال بصدورها. المبتهجون، وغير المبتهجين، يعرفون النتيجة سلفاً، ومتأكّدون منها أكثر من تأكدهم من قدرتهم على تأمين العشاء لأولادهم. لماذا إذن الاحتفالات، وما هو مصدر البهجة؟ هل يحتفلون لأن في فوز الوريث سوف يتحقق ما يأملون به من تأمين الحاجات الأساسية لهم ولعائلاتهم، ومن صون كرامتهم من التشبيح ونقص الاعتبار والانتظار الطويل على الأبواب لتأمين أبسط حقوق الكائن البشري؟ هل يحتفلون لأن فوزه يصون كرامة الوطن من استباحة إسرائيل والقوى الخارجية الأخرى؟ هل يمكن أن يختلف ما بعد هذه الانتخابات الفارغة عمّا قبلها بما يبرّر الاحتفال؟ على العكس، يقول المنطق البسيط إن استمرار الوريث يعني استمرار المشكلات التي تعيشها سورية. باستمراره، سوف تستمر آلية حكمه وطاقم حكمه وسياساته القائمة على القمع الرهيب، وعلى تقسيم الشعب السوري لكي يواصل حكمه، والقائمة على استنزاف طاقة البلد في حروبٍ داخليةٍ، لا مصلحة فيها للشعب السوري أينما كان. ولا يمكن لعاقلٍ أن يأمل بنتائج مختلفة، حين تكون الأسباب واحدة.

أين هو النصر الذي يستدعي البهجة؟ وما تفسير الاحتفال باستمرار "حكمٍ" أوصل البلاد إلى هذه الكارثة؟

هل يبتهجون لأن ثمّة انتصاراً ما؟ أين هو الانتصار؟ سورية مقسّمة، ومستباحة من خمسة جيوش كبرى، ومنبوذة دولياً، ونصف أهلها مشرّدون في الخيم وبلدان اللجوء، والباقون يعيش أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر، بحسب منظمة الصحة العالمية، وأكثر من نصف أطفال سورية بدون تعليم، بحسب منظمة "يونيسف" ... الخ، أين هو النصر الذي يستدعي البهجة؟ وما تفسير الاحتفال باستمرار "حكمٍ" أوصل البلاد إلى هذه الكارثة؟
مهما يكن من أمر، هذا النوع من احتفالات التأييد يمكن أن ينقلب إلى نقيضه في لحظة واحدة. هذا ما يدركه أهل السلطة جيداً، وهو ما يفسّر الاستنفار الأمني المستمر، والمراقبة اللصيقة للناس في حياتهم وأعمالهم وما يكتبون على صفحاتهم. أمام التصويت بالدم والنسبة الخرافية للفوز، وهذا "الابتهاج" الغامر، المنطقي أن تكون طغمة الحكم مطمئنةً إلى حب الجماهير، وألا تخشى من رأيٍ يُقال في مجلس خاص أو في مقال ما أو على وسائل التواصل. لماذا إذن يحصون على "جمهورهم" أنفاسه، ويصرفون على تخويفه وضبطه أضعاف ما يصرفون على تعليمه وصحته؟
أما تجاه خطاب الفوز الذي يحطّ من موقع رئيس الجمهورية إلى أن يكون رئيس جمهور الرئيس، فلم يبق من مشاعر أمام السوريين، أينما كانوا، سوى الشعور بالعار.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.