على رِسلكم أيّها الشعراء

22 مارس 2025

(وسام العابد)

+ الخط -

أحبُّ الشعر، لكني لا أحبُّ كلام الشعراء عنه...

أعتذر هنا عن هذا المُفتتح، عندما "أفترض" القرّاء معنيّين بما أحبّ وما لا أحبّ. ولكن ذريعتي في هذا زعمي إن ما أنا عليه مزاجٌ عام، أو واسعٌ وعريضٌ إذا أردنا الاحتراس من التعميم المطلق. وليس هذا ادّعاءً بلا شواهد، بل يؤكّده الكلام الكبير، وأحياناً الكبير جدّاً، الذي يخلعُه أصحابُنا الشعراء (للاحتراس أيضاً، كثيرون منهم؟) على الشعر، وعلى أدوارٍ يفترضونها له. وعندما يحدُثُ أن يستفيضوا فيرونَه أصعبَ الأدب وأرقى أنواعه، وأجلّ شأناً من نثر السرود، الرواية والقصة والمسرح. ولا يجدون حرجاً في "تأكيدهم" إن أيّ نصٍّ من هذه الأجناس ليس له أن يُحقّق جمالَه إلا بمقادير فيه من روح الشعر وشُحناته. كما أن الرقص والموسيقى والتشكيل فنونٌ تلزمها أنفاسٌ من الشعر وإيقاعاتِه وظلالِه ومجازاتِه ليتلقّى السامعون والنظّارة فيها المُتعة.

يسلّح الشعراء منظورهم هذا بقرائن غير قليلةٍ، إحداها أن مكانة الشعراء في قديم الأزمان والعصور كانت عاليةً، ففي حضاراتٍ طالت، كان الحكّام والسلاطين والأباطرة يقرّبون إليهم شعراء، ويخصّونهم بمنزلة حُماة هوية الأمّة. ولأنه فنٌّ قديم، واشتُهرت في بعض الأمم ملاحم شعرية لها، يعتدّ الشعراءُ بعراقة فنّ القول الشعري، ومركزيّته في مجرى ثقافات الشعوب. ... ولمّا أخذهم بديعُ النصّ القرآني، رماه كفّار قريش بأنه شِعر. وموقع الشِّعر في ثقافة العرب، منذ ما قبل الإسلام، ثقيلٌ. ومعلومٌ أن قصائد كانت تُكتبُ وتعلّق في الكعبة، وأن القبائل كانت تتبارى في الأرفع شعراً. وهذا حفلُ تنصيب الرئيس الأميركي (إلا ترامب) يتضمّن قراءة شاعرٍ أو شاعرةٍ قصيدة. ... تزوّد هذه الحقائق، وأخرى غيرُها، الشعراء بفائضٍ من الاعتداد بصنعتهم، فبلغ الأمر أن نقرأ إن الشعر كفيلٌ بإنقاذ البشر من الحروب والبغضاء في كل العالم، وإنه ذخيرة المحبّين، وإن له مطارحَه الروحية وما فوق الدنيوية، وإن البشرية لن يستقيم أمرها إلا باسترداد الشعر مواضعه الأولى.

مناسبة التذكير أعلاه بهذه النّتف شديدة الإيجاز من بين كلامٍ كثيرٍ عن الشعر، يبذُله الشعراء، وغيرُهم أحياناً، اليوم العالمي للشعر الذي مرّ أمس، وقد عيّنت تاريخََه هذا، 21 مارس، اليونسكو قبل 26 عاماً، وأحسنَت لمّا افتتَحت إعلانَها ذاك بأن للشعر أثراً كبيراً في تعزيز إنسانيّتنا المشترَكة، وأيضاً لمّا أشارت إلى "تعطّش" عالم اليوم إلى احتياجاتٍ جمالية، يمكن أن يلبّيها الشعر، "إذا اعتُرف بدورِه الاجتماعي في مجال التواصل بين البشر". ومع تسليمٍ ببداهةٍ حاضرةٍ في هذا الكلام، في الوُسع أن يُقال مثله عن إبداعاتٍ أخرى. وفي ظنّ صاحب هذه الكلمات أن في "بدعة" تخصيص هذا اليوم عالمياً للشعر اصطناعاً نافلاً. ولكنّ لمن يشاء أن يستحسِن ما أرادته "اليونسكو" له هذا، فالأهم أن هذا اليوم السنوي صار مناسبةً لتكرار كلام المتكلّمين عن الشعر أول ضرورات البشر، وأرفع الفنون، وأبلغ القول، وأصعب الآداب، و... ما إلى ذلك مما يُشبه هذا الاسترسال الذي تُستَسهَل فيه المفاضلات المُرتجلة، والفوقيّات المكابِرة، والذي يُغبط أصحابُه على امتلائهم بكل هذه الثقة الوفيرة، وهم يقولون ما يقولون عن الشعر، وبروحٍ تبدو، أحياناً، كفاحيةً عند بعضٍ يرابطون، مثلاً، في ثغور قصيدة النثر، وهم يتطارَحون ضد أي شعرٍ غيرها.

لا يُنكر قيمة الشعر إلا جاهل، ولا يخصم من جلالِه إلا فقير الذائقة، ولا يسخَر من مجازات الشعراء المُجيدين وأخيلتهم إلا ركيك، ولا يعصى الحسُّ بالجمال في التعبير الشعري الفائق إلا على ضحل الثقافة. والذي يجدر تنبيهٌ دائمٌ إليه أنّ الشعر الرفيع، منذ إلياذة هوميروس مروراً بمعلقة عنترة ولامية الشنفرى وصولاً إلى لطائف سعدي يوسف، في حاجةٍ إلى مقادير من طاقةٍ ذهنيةٍ لدى من يتلقّاه، فالرفيع من الشعر لا يسلّم نفسه لمُراد قارئ عابر، ليس لأن بلاغته من عتاد العشّاق، ولا لأنه يفارق النثر في أن الأخير لغةُ حياةٍ يوميةٍ فيما هو نتاج قرائح ومخيّلاتٍ تُلاحق الأرفع مجازاً، وإنما لأن الشعر لا يتأتّى إلا لأصحابه الذين هم عن حقٍّ أصحابُه.

إنه التواضعُ وحسب ما تلحّ عليه هذه المقالة في مُنتهاها. طيّبٌ من أحبتنا أهل الشعر أن يتّصفوا به، فالشعر عظيمُ الشأن وسيبقى كذلك، غير أن تعسّفاً فادحاً يُزاوله أصدقاؤنا هؤلاء عندما لا ينتبهون إلى الأرض التي تطأ أقدامُهم عليها، وعندما تأخذُهم الحماسة المتزيدةُ إلى تقليلٍ من آخرين وفنونهم وصنائعهم. سيّما وأنّ الشعر شحيحٌ بين ظهرانينا رغم كثيرٍ مما يُنسب إليه... على رِسلكم لو سمحتُم.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.