عصيان علني

عصيان علني

16 نوفمبر 2020
+ الخط -

بعثت تغريدة للملك عبدالله الثاني على "تويتر" ارتياحا واسعا بين الأردنيين، ذلك أنه أكد، بلهجة حازمة، إدانته الشديدة مظاهر خرق القانون المتمثلة في احتفالات جماهيرية حاشدة، جرت فور ظهور نتائج الانتخابات النيابية، في تحدٍّ سافر لقرار الحظر الشامل المفروض في المملكة، من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، شهدت اكتظاظا خطيرا ومثيرا للقلق، ما ينبئ باحتمالية زيادة أعداد المصابين بوباء كورونا، وقد سجل الأردن أعلى أعداد إصابات في المنطقة. تخلل تلك التجمعات غير القانونية التي أقيمت برعاية نواب فائزين إطلاق عنيف للرصاص الحي، واستخدام أسلحة أوتوماتيكية، إضافة إلى مدافع صوت، في عصيان علني لسيادة القانون، واستهانة واستخفاف بأرواح المواطنين، وقدمت للعالم صورة غير حضارية عن الأردن.
استهجن كثيرون صمت الدولة إزاء تلك الانتهاكات التي تمت تحت السمع والبصر، ووثقت بفيديوهات من قلب الحدث، ترصد سلوكيات همجية مخزية، تدفقت على مواقع التواصل. وشعر مواطنون ملتزمون بقانون الدفاع الذي أقعدهم في البيوت أربعة أيام متتالية بالغضب والغبن وغياب العدالة وازدواجية معايير الدولة في التعاطي مع المخالفين، فجاءت التغريدة الملكية لتحسم الأمر، ولتعطي الحكومة الضوء الأخضر في اتخاذ الإجراءات القانونية الرادعة بحق المخالفين، حيث تم توقيف نواب منتخبين مخالفين، تمهيدا لمحاسبتهم. وكان حريا بالدولة أن تُبدي تشدّدا احترازيا مسبقا، مستثمرة قانون الدفاع الذي يمنحها صلاحيات استثنائية واسعة في تطبيق القانون. كان الحريّ بها أن تستبق الأحداث المتوقعة، كون إطلاق الرصاص تعبيرا عن الفرح عادة مقيتة، متأصلة في مجتمعاتنا، لطالما ذهبت ضحيتها أرواح بريئة. كان عليها، والحالة هذه، أن تصدر أمر دفاع خاصا، ينص صراحة على تجريم النواب المخالفين، وفرض عقوبات تصل إلى التجريد، من حق عضوية المجلس، في حال لم يلتزم الواحد منهم بضبط مناصريه، وضمان تقيدهم بالتعليمات الصحية الوقائية، عوضا عن تصدير تلك المشاهد القبيحة المتخلفة، المثيرة للخيبة والخجل، من التسيب والاستهتار بصحة المواطن، والضرب بالقانون عرض الحائط، أفظعها فيديو لطفل في العاشرة من عمره، وهو يطلق الرصاص الحي، احتفالا بنجاح مرشح العشيرة، حاملا على كتفه الصغيرة رشاشا أوتوماتيكيا وسط استحسان الحاضرين، وثناء بعض الجهلة على "الطفل الذيب قاهر العدى!". والسؤال الذي ألحّ على متابعين عن ذوي هذا الطفل، وكيف يوافقون على تعريض ابنهم للخطر الجسيم، والمقامرة بحياته على هذا النحو العبثي، فقط لغاية المباهاة ومكايدة الخصوم. وجاء اعتذار رئيس الوزراء واستقالة وزير الداخلية التي استحسنها الأردنيون، خطوتين في الطريق الصحيح، كونهما تعبّران عن نهج حضاري ومدني مطلوب، وتؤكّدان على مبدأ تحمّل المسؤول تبعات أخطاء مرؤوسيه، حتى لو لم يكن مسؤولا بشكل مباشرعن هذا الإخفاق الأمني المريع.
وجد بعضهم في تلك الأحداث فرصةً لشيطنة المجتمع العشائري بالمطلق. وفي هذا التوجه تجن كبير على منظومة اجتماعية، تنطوي على كثير من أشكال التضامن والتكافل، من شأنها توفير الأمان الاجتماعي والاقتصادي، فيما لو تخلصت من خطابها العنصري المنغلق والمعادي للآخر. ويعرف الدارسون أن العرف العشائري يتضمن قيما إنسانية كثيرة نبيلة، تسعى إلى تحقيق العدالة وإنصاف المظلوم وإغاثة الملهوف. ويتذكّر كثيرون وثيقة السلط الشعبية في مطلع التسعينيات، وهي نتاج حوار عقول متفتحة من أبناء العشائر، مواكبة للتغييرات والتطورات في المجتمع، وقد احتوت بنودا إصلاحية عديدة، مثل ضرورة التخلي عن المظاهر المكلفة الزائفة في المناسبات المختلفة، ومنع إطلاق الرصاص تحت أي ظرف، والتخلص من عقوبة الجلوة الجماعية التي كانت تُلزم أبناء العشيرة، حتى سابع جد، بالجلاءعن مقرات إقامتهم، في حال ارتكب أحدهم جُرما ما. ولشديد الأسف، اندثرت تلك الوثيقة التقدّمية الكفيلة بالنهوض بالمجتمع، وسادت على مرّ السنين العجاف قيم ومفاهيم عدائية جاهلة، نعاني من آثارها البغيضة في مشاجرات الجامعات، وفي مواسم الانتخابات التي تكرس بشكلها الراهن الفرقة بين أبناء البلد الواحد .. ساهمت في ذلك ظروف اقتصادية ضاغطة، أدّت إلى تفشي البطالة بين صفوف الشابات والشبان، ما جعل خيبة الأمل والنكوص عنوانا لحياتهم غير الواعدة إلا بمزيد من القهر والإحباط.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.