26 نوفمبر 2024
عزّت الصيني
كان الشاب الصيني، مترجمُنا ورفيقُنا، عزّت، يحدّثنا، بسمة النسور وأنا، عن محفوظاته من مقطوعاتٍ وأغنياتٍ عربية. وفي الأثناء، جاء على إعجابه بأغنية "نِزلِن على البستان.. يا عنيّد يا يابا" الريفية، للأردني عبده موسى (توفي في 1977)، فأدهشنا. ثم قال إن هذه الأغنية غيرُ معروفةٍ في الصين، مُبديا شعورا بالأسف من أمرِها هذا. ضحكنا، لأن عزّت، وعمرُه 26 عاما، يفترض أن هذه الأغنية، الجميلة حقا، تستحقّ أن تكون مشهورةً في بلده الذي يعدّ مواطنوه مليارا وأربعمائة مليون. كانت دردشتُنا هذه مع عزّت الذي يجيد العربية، بينما كنّا، وبصحبتنا زميلانا في الرحلة، المصريان منصورة عز الدين ومحسن فرجاني، نتهيأ لدخول الطائرة في مطار بكين مسافرين إلى مدينة جوهاي. وهناك في سهرة المساء، غنّى عزّت الذي كان معه عوده العربي أغنية عبده موسى، وعزفَ مقطوعة رياض السنباطي، المنسية، "رقصة شنغهاي"، وأدّى ألحانا وأغنياتٍ عربيةً أخرى.
لم يدرُس هان يو (Han Yu)، أو عزّت، وهذا اسمُه العربي الذي اختاره، الموسيقى العربية، وإنما أخذه شغفُه بالثقافة العربية إلى البحث في شبكة الإنترنت عن أغنياتٍ وإيقاعاتٍ عربية، فاستطعم الكثير الذي حفظه ودندنَه وعزَفه. وحدّثني إنه اشترى عودَه (السوري) من صانعِه في حلب، واسمه إبراهيم السكري، بواسطة موقعٍ إلكتروني، ووصل إليه بتكلفةٍ عاليةٍ. ثم بالتدريج أتقن العزف عليه. ثم عثر على أغنياتٍ لصلاح جاهين أعجبته. وأرسلت إليه زوجة أستاذه، فراس السوّاح، أغنياتٍ لفيروز وأم كلثوم، تدرّب على سماعها وعزْفها. وفي القاهرة، حيث درس بعض الوقت في العام 2017، وقع على رباعيات صلاح جاهين، وعلى أغنياتٍ لطلال مدّاح ومحمد عبده ومعزوفاتٍ للسنباطي والقصبجي. كما توفّر له أن يسمع مقطوعاتٍ وأغنياتٍ شامية، مثل "يا طيره طيري"، و"يا مال الشام". وهو الآن يواظب على البحث عن أغنياتٍ من العراق والخليج والمغرب ولبنان.
درس عزّت اللغة العربية وآدابها في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين (أنشئت في 1941)، وهو حاليا يهيئ الدكتوراة، وموضوع أطروحته فيها يتعلّق بالتصوّف، وكانت أطروحته في الماجستير عن "مجمع الأمثال" للميداني. وكان قد انجذب إلى دراسة اللغة العربية، إبّان كان في الثانوية، لمّا وجد نفسَه قادرا على تعلّم لغاتٍ صعبة، مع الإنكليزية التي يتعلّمها كل طالبٍ في مدارس الصين. ويقول إنه، بدايةً، باشر تعلّم اللغة الروسية، وقناعتُه أصلا إن الإنكليزية ليست كل شيء، و"إن هناك أصواتا كثيرة يجب أن نسمعها"، بحسب تعبيره الرائق. وفي أثناء مطالعاتِه كتبا بالروسية في المنزل، صادف في الإنترنت مقطوعاتٍ للموسيقي العراقي منير بشير، وكان في الثامنة من عمره قد شاهد مسلسلا كرتونيا للأطفال في التلفزيون، وهو قصص نصر الدين أفندي، الحروف المكتوبة فيه عربية، ولكن باللغة الإيغورية التي تعرّف على زملاء يتكلمونها، علّموه حروفها، ثم علّم نفسه. وفي السنة الثالثة في الثانوية، غادر الروسية إلى العربية. وفي الجامعة، تعلم الأوزان الشعرية العربية، وصار يُتقن تقطيع العروض العربي. في البداية، لم يكن يفهم جيدا القصائد القديمة، لكنه تاليا صار يقرأ لامرئ القيس وزهير، ثم المتنبي والمعرّي والنابغة الذبياني وأبي نواس. وصار يشعر بالإحساس بالوزن العربي، بل ويحاول أيضا نظم شعر باللغة العربية، غير أنه لم يجد نفسه موهوبا في هذا، وإنما يكتفي بتقطيع الشعر العربي عروضيا بالقراءة والسماع.
يحدّثني عزّت بحبٍّ كبير عن أستاذه فراس السوّاح، الباحث السوري المعروف. درس عليه في الجامعة تاريخ الأدب العربي. ويقول إن السوّاح وجده يقرأ القصائد العربية بشكلٍ متقن، فدعاه إلى منزله، وصار يعطيه دروسا إضافية، ويطلب منه أن يكتب مقالةً أسبوعية، ثم يدقّقها ويصحّحها، وقد تكون المقالة خاطرةً عن كرة القدم مثلا. وقد أفاده هذا في تطوير قدرته على التعامل جيدا مع اللغة العربية.
.. يُخبرني عزّت إنه ليس لديه طموح للعمل دبلوماسيا لبلاده في بلد عربي، وإنما رغبته الأولى هي التدريس الجامعي، وهو يأمل أن يزداد عدد الشباب الصينيين الذين يتوجهون إلى دراسة العربية وآدابها.. إنما أوجزت، هنا، مقاطع من سيرة هان يو، لتعريف قارئ هذه السطور بشغف شابٍّ صينيٍّ عشرينيٍّ بلغتنا وثقافتنا وآدابنا وموسيقانا، إلى حدٍّ يجعله يأسف لعدم شهرة أغنية لعبده موسى في بلده.
درس عزّت اللغة العربية وآدابها في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين (أنشئت في 1941)، وهو حاليا يهيئ الدكتوراة، وموضوع أطروحته فيها يتعلّق بالتصوّف، وكانت أطروحته في الماجستير عن "مجمع الأمثال" للميداني. وكان قد انجذب إلى دراسة اللغة العربية، إبّان كان في الثانوية، لمّا وجد نفسَه قادرا على تعلّم لغاتٍ صعبة، مع الإنكليزية التي يتعلّمها كل طالبٍ في مدارس الصين. ويقول إنه، بدايةً، باشر تعلّم اللغة الروسية، وقناعتُه أصلا إن الإنكليزية ليست كل شيء، و"إن هناك أصواتا كثيرة يجب أن نسمعها"، بحسب تعبيره الرائق. وفي أثناء مطالعاتِه كتبا بالروسية في المنزل، صادف في الإنترنت مقطوعاتٍ للموسيقي العراقي منير بشير، وكان في الثامنة من عمره قد شاهد مسلسلا كرتونيا للأطفال في التلفزيون، وهو قصص نصر الدين أفندي، الحروف المكتوبة فيه عربية، ولكن باللغة الإيغورية التي تعرّف على زملاء يتكلمونها، علّموه حروفها، ثم علّم نفسه. وفي السنة الثالثة في الثانوية، غادر الروسية إلى العربية. وفي الجامعة، تعلم الأوزان الشعرية العربية، وصار يُتقن تقطيع العروض العربي. في البداية، لم يكن يفهم جيدا القصائد القديمة، لكنه تاليا صار يقرأ لامرئ القيس وزهير، ثم المتنبي والمعرّي والنابغة الذبياني وأبي نواس. وصار يشعر بالإحساس بالوزن العربي، بل ويحاول أيضا نظم شعر باللغة العربية، غير أنه لم يجد نفسه موهوبا في هذا، وإنما يكتفي بتقطيع الشعر العربي عروضيا بالقراءة والسماع.
يحدّثني عزّت بحبٍّ كبير عن أستاذه فراس السوّاح، الباحث السوري المعروف. درس عليه في الجامعة تاريخ الأدب العربي. ويقول إن السوّاح وجده يقرأ القصائد العربية بشكلٍ متقن، فدعاه إلى منزله، وصار يعطيه دروسا إضافية، ويطلب منه أن يكتب مقالةً أسبوعية، ثم يدقّقها ويصحّحها، وقد تكون المقالة خاطرةً عن كرة القدم مثلا. وقد أفاده هذا في تطوير قدرته على التعامل جيدا مع اللغة العربية.
.. يُخبرني عزّت إنه ليس لديه طموح للعمل دبلوماسيا لبلاده في بلد عربي، وإنما رغبته الأولى هي التدريس الجامعي، وهو يأمل أن يزداد عدد الشباب الصينيين الذين يتوجهون إلى دراسة العربية وآدابها.. إنما أوجزت، هنا، مقاطع من سيرة هان يو، لتعريف قارئ هذه السطور بشغف شابٍّ صينيٍّ عشرينيٍّ بلغتنا وثقافتنا وآدابنا وموسيقانا، إلى حدٍّ يجعله يأسف لعدم شهرة أغنية لعبده موسى في بلده.