عزلة الكاتب ولؤلؤة الصيّاد

08 مايو 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

العزلة هنا ليست هي الترف، بل هي الاحتياج لها، خوفاً من التشعب والهوس بالحضور القاتل. الحضور المستمرّ للكاتب يقتل أيضاً، حتى إن كان ذلك هو عين الاستفادة من المائدة، وهي لازمة هناك للناس فقط، كي تدفع الناسُ عن نفسها وحشةَ البلدان ووعورةَ الجبال والفيافي.

الكاتب، ذلك العادل الغائب عن المائدة، لا بدّ له من شهادة العدل الجارحة، والموائد لا تحبّ العدل في الغالب، وغياب الكاتب فضيلة له.

حينما تصير المائدة هوساً يومياً يفسد الكاتب حتى إن كان محاطاً بكل ملح البحار، وعند ذلك على الكاتب السلام، حتى إن أطرب الملّاح وزادت طبعات كتبه في المكتبات وصار نجماً يشار له بالبنان، وتكدّست في غرفاته أوسمته ونياشينه بجوار مسدسه الذهبي الذي ناله يوم عيد الاستقلال.

الكاتب هو المستقلّ الهامشي على مائدة من صنعه، حتى إن كانت فارغةً من الطعام والحضور وبقية السلطات المستقطبة للأفئدة، تفسد الموائد حتى ملح الكاتب نفسه، حتى إن رحل وقد حمل المجد كلّه معه من قرنيه في تابوته الذهبي. أمّا عن موائد الأفكار فحدّث ولا حرج، وقد تطول القائمة حتى تملأ الصفحات، ولن يشبع الكاتب منها أبداً، لأنها أوتاد ملقاة في قارعة الطرق والعقول التي أنبتتها، حتى إن كانت مليئة بالصلاح في أماكنها الأولى.

الكاتب هو ذلك الغارق في البحر، غرق أبدي، من دون أن يكون لديه ذلك الطموح الواسع بأن يجد اللؤلؤة يوماً في بطن سمكة أو داخل محارة أو كتاب أو حكاية. الكاتب هو حكاية نفسه ومحارة نفسه وكتاب نفسه ولؤلؤة نفسه وجلد نفسه وعظام نفسه، بكل ما به من مرض وعذاب وعثرات وخطايا.

يحكي وجيه غالي في كتابه "رسائل السنوات الأخيرة" (مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحافية والمعلومات، القاهرة، 2019) عذابات نفسه، وتشوّهات نفسه،، وأنانية نفسه، وانكساراته، وهوانه أيضاً، وغربته النفسية في عالم يقدم على قتله بهدوء رغم الموائد والصداقات والبلدان المضيفة والحبيبات كلّها، فقتل نفسه انتحاراً بتناوله كميةً كبيرةً من الأقراص المخدّرة داخل شقّة صديقته وراعيته البريطانية أتهيل، كي يترك لها الملامة أبدية وفاضحة وجارحة أيضاً، إلا أن الصديقة والراعية أتهيل كانت أكثر قسوةً على نفسها ونشرت الرسائل، رسائل وجيه، ولم يترك هو للموائد العامرة سوى روايته الوحيدة "بيرة في نادي البلياردو" (1964).

لكلّ كاتب مسؤوليته الكاملة عن عذاباته، إلا أنه غالباً يتفلّت من ذلك كلّه ويترك شهادة عدله "ولو كئيبة" عمّا عاناه على موائد العالم وخلال عمره المحدود وروحه الهشّة غالباً، التي تصبو إلى مائدة ألم أخرى هناك.

يتعثّر الكاتب في أيّامه، ولكن من الغرائب أنه يمتلك أوّل خيط ما، خيط لا نراه ولا يعلنه ولا يتباهى به، خيط غامض، قد يختار به رحيله بهجرة ما، أو بموت، أو بانتحار، أو بحبّ لم يكن له على البال أو الخاطر، وذلك لأن مائدته دائماً من عذابه ومن عدله هو، لا من عدل الناس أو هواهم؛ وهكذا اختار وجيه غالي من الخيوط أكثرها ألماً.

بالطبع، لم يكن وجيه غالي يبحث عن لؤلؤة الصيّاد، ولا عن مكانة الكاتب المحترمة، ولا عن صوره العديدة. كان يبحث عن نهايته، ووجدها في أوّل الخيط، لا في أوروبا ولا بريطانيا ولا في قلب صديقاته أو حبيباته أو الناشر المنتظر أو الراعية له في شقّتها، ولا في جمال ديانا، ولا حتى في "إسرائيل" التي زارها في البواكير، ولا في واسطة الكاتب فيليب روث له، كي يلقي محاضرة في أميركا هنا أو هناك ويمتلك من خلالها ثمن تذكرة سفر أو ليلة في غرفة بفندق أو سيارة ينام فيها أحياناً في أيّام ضجره من راعيته، كان وجيه يسعى لخيط آخر، خيط أن يعيش هكذا ويرحل هكذا وحيداً، وبالطريقة التي اختارها، تاركاً اللؤلؤ كلّه، والصيّاد، والبحر، والمحارات، والناشر، وحبيباته، وديانا، وأتهيل وبيتها، ومخطوطات مذكّراته.

ولذا، على الكاتب أن يصبر إن استطاع لمس خيوط الصبر، لأن العزلة ليست هي السجن، فالعزلة قوامها الصبر، صبر لا تشوبه مرارة، كي يكون خالياً من القهر، وذلك غير السجن الذاتي تماماً، لأن العزلة هي السرور الغامض بالوحدة بعيداً من الموائد كلّها، وذلك بداية خيط آخر سيظلّ غامضاً وجميلاً حتى النهاية إن استطعنا أن نلمسه.