عدوانية نافرة من مسلسلات سورية

عدوانية نافرة من مسلسلات سورية

06 مايو 2022
+ الخط -

ليس المواطن السوري في حاجةٍ إلى كل هذه الرسائل التي تبثها بعض المسلسلات السورية لكي يعرف أن الحرب في بلاده لم تنتهِ بعد، على الرغم من انتهاء المعارك التي صاحبتها، فمفرزات الحرب تكرَّست وأصبحت جزءاً من اليوميات التي تغلِّف حياة المواطن، فوقع تحت ثقلها وثقل البؤس واليأس الذي خلفتهما في نفسه، خطوة أولى من أجل سلبه الإرادة أو القدرة على الفعل. أما قيمته الصفرية، والتي تريد هذه المسلسلات تكريسها بشكل غير مباشر عبر المشاهد، وبشكل مباشر عبر إفصاح بعض الشخصيات عنها بصراحة، فيعرفها هذا المواطن المستهدف بكل تفاصيل حياته والمتروك وحده يواجه تحدّيات الحياة الأمنية والمعيشية.

في السنوات الثلاث الأخيرة التي شهدت توقف المعارك في سورية، حلّت بعض الآمال في نفوس السوريين بحدوث تغيير يُنقذهم من البؤس الذي يعانونه، غير أن هذه الآمال، وكذلك الأحلام الجميلة، تتكسّر يومياً بفعل تصريحات المسؤولين عن مشكلاتٍ بلا حلول. وقد أدخلت هذه التصريحات وكذلك الواقع اليأسَ إلى نفوس السوريين، حتى بات ضاغطاً عليهم ويتمظهر بعمليات انتحار وحالات موت فجائي، علاوة على ظاهرة استهتار نسبة واسعة من السوريين بوباء كورونا الذي انتشر في العالم، وتصريح كثيرين منهم إنه، وتبعاته التي قد تصل حد الموت، أهون من ظروف عيشهم الحالية. أما من أراد الهروب إلى الحلم أو الوهم، ومشاهدة حالاتٍ من الإنسانية والصفاء، عبر دراما رمضان في موسمها الماضي، فقد أحبط بالعدوانية التي بدت في بعض المسلسلات السورية، وهو الذي لم يعد في حاجة إليها لكي تحكي له قصص الفساد والعنف والقسوة والدعارة والقتل والضياع وتفكّك المجتمع والنزوع نحو الهجرة، هذه القصص التي يعرفها ولا يستطيع عمل أي شيء إزاءها فتزيده إحباطاً.

مفرزات الحرب تكرَّست وأصبحت جزءاً من اليوميات التي تغلِّف حياة المواطن

تبدأ العدوانية التي تكمن في مسلسلي، "كسر عضم" و"مع وقف التنفيذ"، من عنوان العملين، فلا يكفي ما يمكن أن يلحق الفرد من أذىً وألم يحلّ بلحمه، بل يجب كسر عظمه، حتى يصبح عاجزاً بلا حول أو قوة. ولا تجد هذه العدوانية في التعاطي بين الأفرقاء الكبار المتنفذين من يردعها أو يوقفها، فكيف ستُردع إن وقعت على المواطن العادي المسلوب القدرة؟ أما إن وجد من يتنطّع لذلك، تخرج أحكامه "مع وقف التنفيذ" مرحلةً أولى لتبرئة المعتدي. إذ تُظهر لنا الوقائع في بلداننا العربية صعوبة إخضاع المتنفذين والفاسدين للقانون، ليتأكّد أن الفساد ممنوع من اللمس في بلداننا، أما أهله فيتدرَّجون إلى مناصب أعلى حين تطاولهم شبهة الفساد. وهذه السياسة واحدةٌ من أساليب القسر التي تعتمدها الحكومات لمنع أبناء الشعب من المطالبة بمحاسبة أي فاسد، ولإجبارهم على الرضى بالفتات الذي تتكرّم عليهم الحكومات به، وإجبارهم كذلك على التسليم بالواقع، من أجل الهدف النهائي، سلبهم أي إرادةٍ أو نزوع نحو التغيير. لذلك كانت مشاهد الثراء الفاحش، والمشاهد عن صفقات بالمليارات، وأثمان بالمليارات أيضاً تُدفع لتمرير صفقات الممنوعات المهرّبة وشحناتها، إضافة إلى مشهد خزنة المسؤول العامرة بالعملات المحلية والأجنبية وسبائك الذهب، والتي سحب منها جزءاً بسيطاً كان يساوي 15 مليون دولار، في مسلسل "كسر عضم"، والمشهد الذي يصوّر قدرة المتنفذ على تصفية خصم يحقق بفساد زوجته، في "مع وقع التنفيذ"، كانت لها وظيفة، وهي المساهمة في سياسة قسر المشاهد، لتزيد من عوامل إحباطه حين تظهر هشاشته وعجزه أمام هذا الواقع.

من أراد الهروب إلى الحلم أو الوهم، ومشاهدة حالاتٍ من الإنسانية والصفاء، عبر دراما رمضان، فقد أحبط بالعدوانية التي بدت في بعض المسلسلات السورية

ولا ينتهي القسر هنا، إذ ليس من العبث إيصال البطل ريان إلى هذا المصير المفجع، حين انتحر بعد أن أبطل صفقة تهريب مخدّرات، وعرف المصير الذي ينتظره من والده قبل الآخرين. ومردُّ انتحارِه إدراكُه أنه الوحيد الذي يواجه الفساد، وقد عرف أنه سيفقد قدرته على مواجهة كل هذا الفساد المحيط. في حين أن الرسالة الحقيقية للعمل تقول: ليس المطلوب مواجهة الفساد ولا يجب أن يكون لأشخاصٍ مثل ريان وجود في المجتمع. ومن هذه الرسالة نصل إلى الرسالة الأعم: ليس في مقدور المواطن مواجهة الفساد، وإذا حاول فعل ذلك وعجز، عليه الصمت والانزواء أو الانتحار كما فعل ريان. التيئيس الذي تساهم الصورة في هذين العملين في نشره وتكريسه، يجد له البيئة المناسبة بعد الواقع الذي قلب حياة البشر إلى بؤس. وعاملا التيئيس التبئيس يساعدان السلطات في أي بلدٍ على قسر المواطن، وعلى تكريس عجزه إزاء عدوانية كل ما يحيط به، وبالتالي ضمان صمته.

لا يكفي ما يمكن أن يلحق الفرد من أذىً وألم يحلّ بلحمه، بل يجب كسر عظمه، حتى يصبح عاجزاً بلا حول أو قوة

من جهة أخرى، وفي سياق ابتعادها عن ملامسة هموم الناس وواقعهم، تصرّ الدراما السورية على تكرار الأعمال التي تعكس البيئة الشامية، والتي قيل عنها الكثير، من حيث عدم مراعاة الفترة التاريخية وعدم نقل الصورة الحقيقية للمجتمع، حتى وصلت إلى حد تشويه تلك الفترة، وما كانت تحمل من أدوار للمثقفين والحركات الاجتماعية التحريرية، علاوة على دور المرأة الذي كان متقدّماً كثيراً ويخطّ طريقه من أجل تكريس كيانها؛ المرأة المتعلمة والأديبة والمهتمة بشؤون بلادها كما هو حال الرجل ودوره، وعلى عكس ما صوّرت تلك الأعمال.

وفي النهاية، مؤكّد أن صنّاع الدراما السورية يدركون أنه، وبسبب واقع الكهرباء المزرى من سنوات، لا يستطيع المشاهد السوري، المعني الأول بها، متابعتها، والذي تمنعه أيضاً من مشاهدتها ظروفه المعيشية التي تفرض عليه الركض طوال النهار وجزء من الليل، لتأمين الحد الأدنى من متطلبات المعيشة، فإذا كانوا يدركون هذا الواقع، ولا يعكسونه في الأعمال التي ينتجونها، إضافة إلى إصرارهم على إنتاجٍ يسوَّق للمحطّات التلفزيونية في الخليج وبعض الدول العربية الأخرى، فإن صناعتهم بالتالي ستصنَّف صناعةً مفصولة عن الواقع. وهذا الانفصال يؤكّده إنتاج أعمال مبهرة تلجأ إلى توظيف السيارات الفارهة والبيوت الراقية والفلل التي تملكها طبقة واسعة الثراء لزيادة هذا الإبهار والتسويق، فسيصبح بينها وبين الجمهور شرخ، تفقد الدراما عندها وظيفتها بوصفها فنا له دور في المجتمع، لم يعرفه صانعوه، ولم يعرفوا أن غياب الكهرباء يعدّه السوريون نعمة، لأنها تغنيهم عن متابعة أعمال، لم تكتفِ بأنها لا تعبر عن واقعهم، بل أصبحت تزيد من إحساسهم بالحرمان، وتساهم في قسرهم وقهرهم.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.