عبد الهادي المجالي .. الباشا والجنرال و"المعارض"

عبد الهادي المجالي .. الباشا والجنرال والمهندس و"المُعارِض"

13 فبراير 2021
+ الخط -

فقد الأردن الأربعاء الماضي، العاشر من فبراير/ شباط، السياسي عبد الهادي المجالي، أحد أبرز رجال الدولة المخضرمين عن 87 عاماً. وعلى الرغم من أنه اعتزل الحياة العامة في السنوات الأخيرة، إلا أن اعتزاله لم يطفئ شعاع شخصيته، ولم يمحُ ألقابه في الذاكرة العامة: الباشا والجنرال، فيما كان يتمسّك من جهته بلقبه المهني والعلمي: المهندس. وكان قد تخرّج في 1957 من كلية الهندسة في جامعة بغداد، والتحق بسلاح الهندسة في القوات المسلحة الأردنية، ولم يلبث أن تسنّم أعلى المواقع في المؤسسة العسكرية: رئاسة هيئة الأركان المشتركة، لينتقل بعدئذ سفيراً في واشنطن أربع سنوات، يعود بعدها إلى بلاده لتولي إدارة الأمن العام (الشرطة) حتى العام 1989.

وقد شاءت الظروف أن يتزامن تقاعد عبد الهادي المجالي من العمل في مؤسسات الدولة، مع بدء مرحلة جديدة في حياة الأردن، عرفت بمرحلة رفع الأحكام العرفية، وإعادة الحياة النيابية وشرعنة العمل الحزبي، والتحوّل نحو نمط ديمقراطي. ولم يتأخر في التفاعل مع هذه المرحلة، هو الذي أمضى حياته المهنية في المؤسسة العسكرية والأمنية، ما عكس مرونةً في تكوينه الشخصي، وبدأت بذلك مرحلة مدنية في مسيرة الرجل، افتتحها عام 1990 بإنشاء مؤسسة للدراسات الاستراتيجية باسم: مؤسسة الشرق الأوسط. وبعد عامين، اندفع إلى العمل الحزبي، حيث أنشأ حزب العهد الذي تولى أمانته العامة. وكان الإعلان عن الإنشاء الرسمي لذلك الحزب حدثاً قائما بذاته، حيث تقاطر شبّان طموحون، إلى جانب رجال الدولة المتقاعدين، ومن هم على أبواب التقاعد، للانضمام إلى الحزب الوسطي. وبدا الحزب، في أنظار كثيرين، بأنه حزب الدولة، وقد حرص الراحل على تبيان أن حزب العهد يؤيد الدولة وسياساتها، ويعمل تحت سقفها، لكنه ليس حزبا للدولة. وقد أثبتت التطورات في ما بعد أن الدولة الأردنية غير معنية بإنشاء حزب خاص بها، وأنها تنأى بنفسها عن نموذج الدولة الحزبية، وأن الحزب إصلاحي ووسطي، ما جعل كثيرين ينفضّون عن الحزب الوليد. وقد تغير اسم الحزب بعدئذ، عقب اندماجه مع أحزابٍ أخرى إلى "الوطني الدستوري"، ثم حزب التيار الوطني. وقد اندفع أبو سهل، وهذه كنيته، في تلك المرحلة، إلى محاورة الناشطين سياسيا وحزبيا وتلبية الدعوات إلى سهرات سياسية من شخصياتٍ مصنفة على المعارضة، فيما لم يكن يكتم قناعته بأنه لا بد من تمثيل الأغلبية الصامتة التي لا تميل إلى الإسلام السياسي والإخوان المسلمين، ولا إلى الأحزاب اليسارية والقومية، بل تقع في منطقة وسطى تجنح إلى إصلاح مؤسسات الدولة وتحسين مستوى حياة الناس.

تسنّم رئاسة هيئة الأركان المشتركة، لينتقل بعدئذ سفيراً في واشنطن أربع سنوات، يعود بعدها إلى بلاده لتولي إدارة الأمن العام حتى  1989.

وإذ نجح الرجل في إنشاء حزبٍ بعضويةٍ حاشدة في مستهل الأمر، فقد رفد حياته الحزبية بالترشّح في الانتخابات النيابية، حيث فاز دورة تلو أخرى، وتسنّم رئاسة مجلس النواب تسع دورات (الواحدة سنتان)، وترأس الاتحاد البرلماني العربي خلال العامين 2006 – 2008. وهكذا نجح في الجمع بين التمثيلين النيابي والحزبي. وقد تخللت ذلك عودة قصيرة إلى العمل في الدولة، حيث تقلد وزارة الأشغال والإسكان عاما واحدا في 1996، في حكومة عبد الكريم الكباريتي، ثم عاد منها إلى استئناف حضوره في الميدانين، البرلماني والحزبي، حيث بقي أمينا عاما لحزب التيار الوطني، ثم رئيسا فخريا لهذا الحزب الذي قام على ائتلاف بين أحزاب وسطية. وكان الرجل يعتقد أن الناس تنقسم بين شريحة وطنية تشكل 70% من المجموع وشريحة إسلامية تمثل 20% وشريحة قومية يسارية تمثل 10% من الجمهور. وظل يتطلّع إلى نشوء حياة حزبية، تقوم على أحزاب كبيرة ذات برامج، وتتاح لها فرصة التنافس على مقاعد الحياة النيابية، وصولا إلى تشكيل حكومات نيابية. على أن الرجل، وبالذات في العقد الأخير، جنح إلى التشاؤم، بسبب تعثر العمل الحزبي، والذي يردّه إلى أسباب تشريعية وأخرى ذاتية تتعلق بالأحزاب نفسها، وعوامل أخرى تتعلق بجهات نافذة، لا بالنظام نفسه، لا تؤمن بدعم العمل الحزبي وإفساح المجال أمامه، وترى أن المجتمع لم يبلغ درجة النضج السياسي، كي تتمثل شرائحه في أحزب قوية ومستقرة، وقد بلغ به الحال، في العام 2017، أن دعا، من موقعه على رأس الحزب، إلى حل الحزب، لوضع الحكومات أمام مسؤولياتها، وكوسيلة للاحتجاج على التهميش الذي تتعرّض له الحياة الحزبية، وقد التأم ممثلو الحزب وتدارسوا الفكرة، وقرّروا الإبقاء على الحزب، فيما بقي المجالي رئيسا فخريا له، والوزير السابق صالح ارشيدات أمينا عاما له.

جهر بمعارضة سياسات رسمية، تضع العراقيل أمام التقدّم، وتُغرق الحياة الحزبية بترخيص عشرات الأحزاب، كي تفقد هذه الأجسام السياسية وزنها

وفي واحد من آخر الحوارات التلفزية معه قبل نحو ثلاث سنوات، وبثّ على الموقع الإلكتروني للحزب، بدا الرجل مصدوما من واقع أنه، وهو ابن النظام كما يصف نفسه، يجد نفسه مضطرّا للجهر بمعارضة سياسات رسمية متنفذة، تضع العراقيل أمام التقدّم، وتُغرق الحياة الحزبية بترخيص عشرات الأحزاب، كي تفقد هذه الأجسام السياسية وزنها وهيبتها في عيون الجمهور. وهي ظاهرة أردنية، أن تُمضي شخصياتٌ شطرا كبيرا من حياتها في مواقع قيادية رسمية، ولا تلبث أن تنتقل، في سن التقاعد وما بعده، إلى مواقع أقرب إلى المعارضة. وهي مفارقة حقا أن ينتدب الراحل عبد الهادي المجالي نفسه، ويوظف رصيده لقيادة تشكيلة حزبية، هدفها تمثيل الشارع وبلورة قوة سياسية في مواجهة المعارضتين، الإسلامية واليسارية، مع إقراره بأن الأحزاب، على اختلافها، مؤسسات وطنية تستحق الاحترام والتقدير، ومع حرصه على مد الجسور معها، وأن لا يلاقي، بعدئذ، سوى العراقيل التي وضعت أمامه وأمام الآخرين على حد سواء، حيث يتم النظر إلى الجميع باعتبارهم حزبيين، يجب التعامل معهم بحذر، على الرغم من كل الفروق بينهم.

في مرحلته الأولى، نحو ربع قرن، وبانخراطه في المؤسسة العسكرية والأمنية، كان عبد الهادي المجالي عسكريا محترفا، منقطعا إلى عمله وواجباته الوظيفية، وانتقل بعدها إلى العمل الدبلوماسي سفيرا في واشنطن، مستهلا بذلك مرحلته المدنية، مستفيدا مما يوفره هذا العمل من فرصة للتعرّف والحوار مع قيادات وسياسات مختلفة، والتواصل مع المؤسسات البرلمانية الإعلامية والبحثية، ... لينطلق بعدئذ في الطور المدني، وقد سعى أن يوفي هذه المرحلة حقها، جامعاً بين العملين، البرلماني، ونائباً في مجلس النواب وعيناً في مجلس الأعيان (المجلسان يشكلان معا في الأردن مجلس الأمة)، والحزبي الذي كان يراهن عليه في نقل الحياة السياسية والعامة خطواتٍ إلى الأمام، وبناء دولة ديمقراطية نيابية. ومع إصابته ببعض العوارض الصحية في السنوات الأخيرة، ومع التقدم في العمر، فقد هدأت حركة الرجل، وتوقف عن الترشح للمجلس النيابي، إلى أن تدخل القدر الغشوم، وأدّى إلى تدهور حالته الصحية، نتيجة إصابته بوباء كورونا، على الرغم من تلقيه الجرعة الأولى من اللقاح ضد الوباء، ليصدم الجميع بمفارقته الدنيا، فيما جرى تكريمه بجنازة عسكرية مهيبة، أقيمت له في مسقط رأسه قرية الياروت جنوب البلاد.