عبد الناصر وحسن نصر الله

عبد الناصر وحسن نصر الله

08 أكتوبر 2020
+ الخط -

لا يفوّت أنصار حزب الله ذكرى وفاة الزعيم المصري الراحل، جمال عبد الناصر، إلا ويغامرون بالمقارنة بينه وبين الأمين العام للحزب، حسن نصر الله. مؤتمرات، مهرجانات، مقالات، ندوات... كلها تريد اشتراك الرجلين بالعظَمة. بل يذهب بعضهم إلى المفاضلة بينهما، فيقولون إن الثاني، أي نصر الله، تفوَّق على الأول. مثل ذاك المقال الصادر عن أحد أولئك الأنصار، وعنوانه "هل يفعل نصر الله ما عجز عنه عبد الناصر؟". والصادر قبل أيام. أي عشية قبول حزب الله، عن طريق حليفه الأوثق، رئيس حركة أمل ورئيس مجلس النواب، نبيه برّي، بـ"مفاوضات الإطار" مع إسرائيل حول الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ما يحضّ فعلاً على المقارنة بين الرجلين. 

ولعلّ ذروة اللحظة التي سمحت بتكبّر كهذا على عبد الناصر، كانت حرب تموز (يوليو) 2006. خرج منها "حزب الله منتصراً" على إسرائيل، ضارباً هيبتها، بعدما بلغت أدنى درجاتها في حرب حزيران /يونيو/ 1967، في زمن عبد الناصر. وقد عُرفت بـ"النكسة"، أو "الهزيمة". حربٌ خاطفة ساحقة، أدّت إلى احتلال إسرائيل مزيدا من الأراضي العربية في مصر وسورية والأردن. ولكن ذروة حزب الله هذه تآكلت مع الوقت. فوق خسائرها البشرية والعمرانية، واستدراك نصر الله بأنه "لو كان يعلم" بحجم تلك الخسائر.. تبيّن أن هذا الانتصار كان موجهاً ضد الدولة اللبنانية وضد الأخصام. أكانوا من "الشركاء" أم من الشعب المسكين. ولم يكن مقصوداً به إسرائيل، إلا كمجال مُتاح. نصر الله عاثَ بهذا "الانتصار" خراباً، لتثبيت منطق القوة العارية. فكانت حرب 2006 هزيمة للبنان، فيما بقي نصر الله وأنصاره يصفونه بالانتصار "التاريخي، الإلهي، الاستراتيجي". 

لعل ذروة اللحظة التي سمحت بتكبّر كهذا على عبد الناصر، كانت حرب تموز 2006. خرج منها "حزب الله منتصراً" على إسرائيل، ضارباً هيبتها، بعدما بلغت أدنى درجاتها في حرب حزيران 1967، في زمن عبد الناصر.

في العمق، لم يكن مقصوداً بهذا الانتصار غير نقطة واحدة: احتفاظ حزب الله بسلاحه. في المقابل، لم يتوانَ عبد الناصر، في هزيمة 1967، عن تحميل نفسه المسؤولية الكاملة، والتنحّي بالتالي عن السلطة. نعرف بقية القصة من أن الشعوب العربية كلها خرجت ليلتها، ترفض هذا التنحّي، وتتمسّك به زعيماً شعبياً، في الإخفاقات، كما في الإنجازات. باختصار، زعيم يتباهى ويستقوي بـ"انتصار"، كان في الواقع هزيمة، يحمِّل تبعاته لوطنه. هو حسن نصر الله. وزعيم آخر، يتحمّل كامل المسؤولية عن هزيمة، ليس هو الوحيد المسؤول عنها، إنما ضميره الحيّ.

وعبد الناصر كان صاحب قراره. أكثر ما اعتزّ به المصريون أنه أول حاكم مصري لمصر، منذ عهود الفراعنة. وهو بذلك لعب الدور الذي رسمه لنفسه. أي أنه زعيم "عضوي"، جواني. فيما حسن نصر الله "برّاني". نبْتة تغذّيها مواد شبه كيميائية، خارجة عن أرضه. وهو يحكم بالنيابة عن الإيراني الولي الفقيه. يقولها من دون مواربة: المال والقرار من هناك... وهو بذلك لا يلعب إلا دوراً مرسوماً له في طهران. بقراراتها، وحساباتها، ورهاناتها. مثل آلة الرقابة عن بُعد. فيما كانت مصر هي رائدة العالم العربي أيام عبد الناصر، أصبحت إيران الملالي، بواسطة حسن نصر الله ونظرائه، تنافس بقية المتدّخلين في شأنه بالقرار نيابة عن غالبية المشرق العربي. الأول، عبد الناصر، صاحب دور الأصيل. والثاني، نصر الله، صاحب دور الوكيل.

كاريزما نصر الله عرفت تحولاتٍ: كانت قوية عند الذين آمنوا بمشروعه الكاذب بتحرير فلسطين. وانفرطت شيئاً فشيئاً مع ارتفاع الحجاب الذي حلّ على هذا "المشروع"

ثم إن عبد الناصر كانت له رؤية، فاشلة أو ناجحة، أو بين الاثنتَين. هذا ليس شأننا هنا. كانت رؤيةً ذات أبعاد. حلقات الثورة والعالمثالثية. وحدة عربية. تنمية شاملة. تحرّر اجتماعي. كان عبد الناصر تقدّمياً. يؤمن بأن المستقبل يحمل تغيراتٍ مطلوبة، لو كانت هناك إرادة وخطة. أما نصر الله، فلا يملك إلا "رؤية" واحدة: الاحتفاظ بسلاحه. وخلفها فكرٌ ماضويٌّ ظلامي، لا يفترق كثيراً عن الأصوليات الدينية الأخرى. وهو عكس التقدّمي. إنه رجعي، بتقديسه الديني، بتعبئته المذهبية الخشِنة، بالسلوك والفحوى وإعادة التاريخ إلى الوراء، والعيش في ظُلُماته، بالملالي الذين يأتمر بهم. قارن فقط بين "رسالة حزب الله إلى المسلمين"، حيث يعرض حزب الله برنامج العودة إلى الوراء، مشحونا بأيديولوجيا دينية. وكتاب "فلسفة الثورة" لعبد الناصر. البراغماتيكي، العملي، على الرغم من أن المغالين بحبه حوَّلوه إلى كتاب أيديولوجي.. 

في الكاريزما وصورة الاثنَين؛ الأول عبد الناصر. يمكن ألا توافق على سياسته، ولكنك منجذب إلى شخصيته، خطابه، وقفته، لمْعة عينيه، صوته، عاطفته، قدرته على هزّ الجبال. كاريزما عفوية، تجمع ولا تشتّت، تتجاوز الهزيمة والموت. فيما كاريزما نصر الله عرفت تحولاتٍ: كانت قوية عند الذين آمنوا بمشروعه الكاذب بتحرير فلسطين. وانفرطت شيئاً فشيئاً مع ارتفاع الحجاب الذي حلّ على هذا "المشروع". وصارت كل طلاته منفِّرة لمن لم يَعُد يصدّق لا نواياه ولا مواقفه، ومرحِّبة لمن لا يزال على عهده معه. الوحدة مع عبد الناصر، والانقسام مع حسن نصر الله. في الكاريزما، تتجسّد وحدوية عبد الناصر وتقسيمية نصر الله.

زعيم يتباهى ويستقوي بـ"انتصار"، كان في الواقع هزيمة، يحمِّل تبعاته لوطنه، هو حسن نصر الله. وزعيم آخر، يتحمّل كامل المسؤولية عن هزيمة

وهذه الطلات بعينها تختلف جذرياً بين الرجلين. عبد الناصر يطلع إلى المنبر في الهواء الطلِق. يتكلّم مباشرة مع الجمهور، يتفاعل معه. يطلق أحياناً النكات أو المفاجآت، أو الكلام الخارج عن المتوقَّع. يسكن في بيت يعجّ بالناس الخارجين والداخلين. بيتٍ يحرسه أفراد معروفون، من جنود الدولة. فيما نصر الله يعيش في مكانٍ ما تحت الأرض. يصل إليه زوّاره معصوبي العينين. يستقبلهم في تلك الغرفة الكئيبة المملّة، بستائرها المغلقة، وإضاءتها الخافتة، والكرسيين المتصدِّرين. يحرسه أفراد من مليشياته، غير معروفي الاسم أو الوجه، أو الراتب، أو الصفة المعلَنة. بيت متقشّف، صحيح، ولكن كل ما من حوله يزخر بثراء الفساد الفاحش. الفساد يختصر المقايضة الوحيدة بينه وبين الاحتفاظ بسلاحه. أو العقد السياسي المبْرم، علانية أو سرّاً: لنا السلاح إلى الأبد، ولكم لبنان، بخيرات البقرة الحلوب. فيما عبد الناصر متقشّف، ببيته وبمحيطه. العقد الذي وثّقه مع رجالاته ومع الشعب، هو تفويضه بالرئاسة، تحت قبة دولةٍ، لها خطط خمسية ورؤية... فلم ينْبت الفساد في محيطه، في أثناء حياته، إلا بخجل واستثناء... وهنا ربما يبرز الفرق العملي بين صاحب الدولة وصاحب الدويلة. الأول واضح ومطمئن، والثاني غامض ومريب. الأول منسجم مع نفسه. الثاني الشيء ونقيضه.

إلا أن شيئاً واحداً يجمع الرجلين، بعد كل هذه الفروقات: نصر الله ورثَ عن عبد الناصر جانباً سلبياً من تجربته. أقصد البروباغندا والقمع. مثل عبد الناصر، يلجأ نصر الله إلى تخوين أعدائه، "عملاء الخارج" أو "السفارات"، ويتفوَّق عليه. ومعهما شعار: "لا صوت يعلو فوق...!". الذي يسخّر حيوات الأفراد والمجموعات لـ"الهدف الأعلى". مثله أيضا لا يتورّع نصر الله عن ممارسة القمع، وإنْ بأشكال مختلفة، باختلاف أدوات الدولة والدويلة. وأثمن ما ورثه نصر الله من عبد الناصر هو حب الشعوب فلسطين. كان حباً جاهزاً، لم يتطلب منه أكثر من استثماره، حتى الثمالة. حتى بعدما بهتت آثار حرب 2006، حتى بعدما دخلت الشكوك في العقول، تعزّزها الممارسات الأنتي فلسطينية لحزب الله ("حماس" الفلسطينية غير محسوبة هنا، فهي النظير الفلسطيني لحزب الله، بنكهة تركية).

عبد الناصر ابن زمنه. لو عاش بيننا اليوم، بتلك الفطْنة التي ولد بها، لكان تحوّل ربما إلى شاعر كبير

ولكن الحق يُقال إن عبد الناصر هو ابن زمنه أيضاً. لو عاش بيننا اليوم، بتلك الفطْنة التي ولد بها، لكان تحوّل ربما إلى شاعر كبير، بوهيمي وفوضوي. ففي عصره، كانت نداوة الاستقلال الحديث عن استعمار مباشر، وكان ثمّة معسكَران واضحان: الشرير، أي أميركا الإمبريالية وإسرائيل، والخيّر، أي الاتحاد السوفييتي صديق الشعوب المناهضة لهما. وكانت مكوّنات العروبة قد نشأت. وجاء عبد الناصر ليتوِّجها بمغامرتيه الوحدويتين في سورية واليمن. أما اليوم، فالعكس تقريباً: لم تعُد الإمبريالية الأميركية وإسرائيل الشرّيرين الوحيدَين على الساحة. إنما ولِدت إمبرياليات جديدة، تتنافس علينا مع القديمة: دولية، مثل الصين وروسيا (الاتحاد السوفييتي السابق)، وأخرى إقليمية، مثل إيران. والصراع الآن يدور بين أشرار وأشرار. وثمّة شعوب طائفية، مثقوبة، مهلْهلة، جائعة، لا تملك مصيرها، وزعماء على صورتها، مهترئون، دورهم بقياس تبعيتهم، وقوتهم بقوة ودراية المحور الذي يتبنّاهم، أو يتبنّون. ولا يجوز تحميل إيران وحدها تبِعة هذا الانحطاط الجديد. إذ إن فائض الضعف الداخلي يستحضر فائض القوة الخارجي.