عبد الله الثاني بين الأزمة الداخلية وقضية الفتنة

عبد الله الثاني بين الأزمة الداخلية وقضية الفتنة

20 يونيو 2021

عبدالله الثاني يتحدّث في مؤتمر صحفي مشترك في مقر حلف الناتو في بروكسل (5/5/2021/فرانس برس)

+ الخط -

ليست مصادفةً في الأردن أن يتقاطع بدء عمل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية مع إصدار لائحة الاتهام في ما يسمى قضية الفتنة، إذ بدا أنّ الملك عبد الله الثاني يريد أن يبعث رسالة ببدء عملية إصلاح مطلوبة شعبياً، وفي الوقت نفسه، توجيه ضربة قاصمة إلى صدقية أخيه الأمير حمزة، الذي حاول بناء شعبيةٍ له بين العشائر المستاءة من توجهات القصر على حساب سلطات العرش. لكنّ هذ الرسالة المنشودة لم تصل تماماً، نتيجة سوء إدارة القصر في إخراجه روايته عن مؤامرةٍ كتبت صحف أميركية أنّها مدعومة من ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، ومستشار الرئيس الأميركي السابق جاريد كوشنر، وأيضاً نتيجة فقدان الثقة الشعبية بوعود الإصلاح ولجانها، خصوصاً أنّ جديد هذه اللجان، وقد أعلنت في العاشر من شهر يونيو/ حزيران الحالي، يرأسه رئيس وزراء سابق هو سمير الرفاعي، الذي أطاحت احتجاجات شعبية بحكومته عام 2011، ويعود الآن لقيادة "التحديث" في الأردن.

فقدان الثقة بالدولة وبالقصر هو العنوان الرئيس للأزمات المتلاحقة في الأردن. ولذا، فإنّ معالجة الأزمات يجب أن تبدأ بمحاولة استعادة صدقية الدولة، وليس المساهمة في تقويضها، فمنذ بدء أزمة الأمير حمزة، وإعلان القصر عن مشاركة الأخير في تحريك "فتنة" ضد أخيه الملك، شنّ الديوان المكي حملة واسعة، من خلال تسريبات إلى صحافيين عرب وأجانب عن وجود مخطط رسم خطواته محمد بن سلمان وكوشنر. وفي النهاية، جاءت لائحة الاتهام الرسمية ضد شريكي الأمير؛رئيس الديوان السابق باسم عوض الله، والشريف حسن بن زيد "بالتحريض على مناهضة نظام الحكم"، ضربة للرواية الرسمية المسرّبة عن خطة خطيرة استشعر الأردنيون أنّها قد تهز أركان العرش.

من السهل اختراق المجتمع والدولة، خصوصاً في ظلّ استمرار التطبيع مع العدو الإسرائيلي ومعاهدة دفاع مع أميركا تنتقص من السياسة الأردنية

هنا لا بد من الاعتراف بأنّ مضامين تسجيلات مسرّبة، وإن كان من الصعب معرفة سياقات الحديث، تدلّ على أنّ الشريف حسن كان بالفعل يحرّض الأمير حمزة، وإن بدا نزقاً في أحاديثه وكلماته البذيئة، حتى أنّه يسخر من عوض الله الذي يعتبره فاقداً القدرة على عمل شيء. وعلى سخافة مستوى ما سرّب من مكالمات، فإنّها قد تشكل إدانة الأمير حمزة لدى الرأي العام، وهذا ما يريده القصر، خصوصاً أنّ المتهمَيْن على علاقة بمحمد بن سلمان.

يتضح أنّ هناك تحريضاً على الملك، واستياء منه، وأنّ ثمّة شخصاً ثالثاً غامضاً يؤثر على الشريف بن زيد. لكنّ المشكلة الكبرى التي يواجهها الملك أنّ مثل هذه الأحاديث المرفقة أحياناً بتفضيل الأمير حمزة على الملك، بكلماتٍ أكثر قسوة، تتردد أحياناً في العاصمة عمّان والمحافظات بين من يحسّون بمظلومية حقيقية، وهم الأغلبية، وبين من لهم دوافع انتقامية وانتهازية. وهذه تظهر عادة حين تعصف أزمات سياسية واقتصادية في دول وأنظمة، الأمر الذي يُحدث خلطاً بين صرخة المظلوم واستغلال نخب لهم على استعداد لنقل بنادقها من خندق إلى آخر، حتى لو كان ذلك خيانة للوطن نفسه. لكنّ هذه الظواهر مؤشّر على عمق أزمة الحكم، وليست مجرد مسألة تنافس بين الملك وشقيقه، كما أوضح مقال سابق لصاحبة هذه السطور، في "العربي الجديد" (11/4/2021). ولذلك، إذا كان الملك مصدوماً من تحرّكات أخيه بين العشائر، وصمت الأخير عن نقد هؤلاء سياساته، فيجب أن يخشى الأهم من مكالمات مسؤول سابق وشريف مدلل، وهو انفجار انتفاضة شعبية، خصوصاً أنّ كثيرين من رجال دولة سابقين، وآخرين حاليين في الدولة، يوجهون له النقد في جلساتهم. وبغض النظر عن دوافعهم التي اعتبرَ بعضها انتهازياً، فإنّ ذلك يوسع دائرة السخط الشعبي. كما أنّ لجنة هدفها التوصية بتعديل قوانين، أهمها قانون الانتخابات، يرأسها من يراه الموطن الأردني مسؤولاً عن تقسيم الدوائر الانتخابية، أي عن التزييف الرسمي لتمثيل الأردنيين، لن تنفس الاحتقان، بل قد تزيده. والحلّ ليس في الاعتقالات الدورية للحراكيين، ومنهم أحمد طبنجة المعتقل منذ عام ونصف العام، واستعمال قانون الجرائم الإلكترونية لتكميم الأفواه، ومحاربة أعضاء نقابة المعلمين التي تعاديها الدولة، بحرمانهم من مصدر رزقهم. وهذا كلّه لن يزيد النفوس إلا اشتعالاً، فكيف يمكن أن تقنع الفقير والمضطهد بلجان إصلاح، وهو لم يرَ من سابقاتها مقرّرات تنفذ، وهو الذي لا يجد عملاً يؤمن له حياته؟

تشكيل لجنة جديدة لا فائدة منه، إذا لم تسبقها أو ترافقها إجراءات بناء الثقة، وأولها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين

في مثل هذا الوضع، يصبح من السهل اختراق المجتمع والدولة، خصوصاً في ظلّ استمرار التطبيع مع العدو الإسرائيلي ومعاهدة دفاع مع أميركا تنتقص من السياسة الأردنية، وفي ضوء استمرار الحكومات اليمينية الإسرائيلية، في تسريع المشروع الاستيطاني الصهيوني وتهويد القدس. وليس مستغرباً أن تحرّض إدارة دونالد ترامب، وأطراف سعودية على الملك، بعد رفضه قبول الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وانتهاك المسجد الأقصى، وضمّ أجزاء من الضفة الغربية المحتلة. فرفض الملك القبول بدور أمني للسيطرة على الشعب الفلسطيني المحبوس في "كانتونات" يكون جزءاً من صفقة القرن، جعله، على الرغم من كلّ ما يرى الشعب الأردني من تبعية مقيتة للسياسة الأميركية، عرضة لضغوط، فكانت محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي المنصرف، نتنياهو، وإدارة ترامب، خنق الأردن سياسياً واقتصادياً، ما يجعل احتمال حدوث المؤامرة وتوريط حمزة أمراً غير بعيد التصديق. لكنّ لائحة الاتهام لباسم عوض الله، وزيد بن حسين، والمكالمات المسرّبة صوتاً ونصاً، لا تنسجم مع تلك الروايات، بل بدت وكأنّها تصفية حسابات، خصوصاً أنّه تم تحويلها إلى محكمة أمن الدولة التي تفتقد معايير العدالة، وغير معترف بها دولياً، وتُستعمل بشكل دائم ضد الحراكيين.

لماذا لا يحاول القصر إنهاء الأزمة، حتى لو استوجبت التحويل إلى محكمةٍ أخرى، بدلاً من التسريبات التي أحدثت بلبلة، بل زادت من شعبية الأمير التي هي في جزء كبير منها تعبير عن معارضة سياسات الملك؟ كان الأجدى التركيز على القضايا الملحّة، فتشكيل لجنة جديدة لا فائدة منه، إذا لم تسبقها أو ترافقها إجراءات بناء الثقة، وأولها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والكفّ عن التدخل الأمني في الإعلام وإشاعة أجواء الحريات في البلاد، وتنفيس الاحتقان.

أخيراً وليس آخراً، على القصر التفكير ملياً بكيفية التعامل مع العشائر، فاللبرلة الاقتصادية منذ عام 1989 أضعفت نظام الريعية، من دون تأسيس نظام اقتصادي منتج لتوفير فرص عمل، بعدما فقد أبناء العشائر فرص عمل مضمونة في القطاع العام، ما أدّى إلى إفقار شرائح واسعة في المدن والقرى والمخيمات... هذه كلّها أخطاء متراكمة، لم تتراجع الحكومات الأردنية عنها، وتجاهلت حنق المسحوقين، فمتى تبدأ صحوة حقيقية عند أصحاب القرار؟