عبثٌ بمسارح الجرائم في سورية... مخاوف من تضييع الأدلّة
سوريون يأملون التعرّف على رفات مفقوديهم أمام مستشفى دمشق (11/12/2024 Getty)
وسط تفاعلٍ واسع في مواقع التواصل الاجتماعي السورية إثر نشر فيديو، في الـ13 من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، يبيّن مجموعةً ناشطةً تُدعى "سواعد الخير"، تدخل فرع الأمن 325 للمخابرات والأمن العام في مدينة اللاذقية، وتقوم بطلاء جدرانه، والعبث بمحتوياته، إذ صرّح أفراد المجموعة بأنّهم حصلوا على موافقة من حرّاس الموقع. غير أنّ هذا السلوك، الذي وصفه بعضهم بالمبادرة التطوّعية، أثار انتقاداتٍ شديدة من حقوقيين وعائلات ضحايا رأوا فيه تهديداً مباشراً لجهود التحقيق في انتهاكاتٍ يُحتمل أنّها وقعت في هذا الفرع. وبرزت تساؤلاتٌ حول مدى تأثير العبث بالوثائق على مسار البحث عن الحقيقة ومحاسبة الجناة، وعلى سبب سماح السلطات (إن كانت قد أذنت فعلاً) لجهة غير مختصّة بدخول مكان بهذه الحساسية.
وفق روايات متطابقة ومقاطع فيديو منشورة، دخلت مجموعة "سواعد الخير" مقرّ فرع الأمن المذكور بحجّة "إعادة تأهيل المبنى" وتنظيفه، إلا أنّ الشبكة السورية لحقوق الإنسان حذّرت، في بيانٍ رسمي، من تداعيات هذا الدخول غير المنظّم، وأوضحت أنّ المقرّ يُعدّ من أماكن الاحتجاز التي رُصدت فيها اعتقالات تعسّفية وعمليات إخفاء قسري عديدة منذ بداية النزاع، وبالتالي، هو مسرح جريمة. وطالبت السلطات السورية بفتح تحقيق مع مجموعة "سواعد الخير" وكشف نتائجه للرأي العام. وعلى الرغم من محاولات التواصل مع السلطات في محافظة اللاذقية، لم يصدر أيُّ تعليق رسمي واضح يحدّد الجهة المخوَّلة السماح للمجموعة بدخول المبنى، واقتصرت تصريحاتٌ متفرّقة على الدعوة إلى "التعاون في ما ينفع أهالي المدينة"، من دون بيان أيّ ضوابط للمحافظة على الوثائق المودعة في الفرع.
الأهمية والسياق العام
لا تنحصر إشكالية دخول مجموعات مدنية مراكز أمنية حسّاسة في أنها "عمل تطوّعي" وحسب، بل المشكلة في أنّ هذه المواقع قد تحتوي أدلّةً توثّق انتهاكات جسيمة، كالاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري. وأي عبثٍ أو إتلافٍ للوثائق، حتى لو لم يكن متعمّداً، قد يعرقل وصول الضحايا وعائلاتهم إلى حقيقة ما جرى، كما يهدّد صدقية التحقيقات أمام المحاكم الوطنية أو الدولية. في هذا الإطار، يُلقي الخبراء بالمسؤولية على السلطات الانتقالية أو المحلّية التي يفترض أنّها المكلّفة بتأمين المواقع الحسّاسة وإدارة دخولها وفق قواعد قانونية واضحة. ويُحذّر ناشطون حقوقيون من أنّ تساهل الجهات الرسمية في هذه الحادثة قد يشجّع مجموعات أخرى على تكرار التصرّف نفسه، ما يزيد من خطر اختفاء أدلّة ذات أهمية بالغة للعدالة.
ضوابط الدخول إلى مسارح الجرائم
تُحاط عملية الدخول إلى مسارح الجرائم بمجموعةٍ من البروتوكولات الدولية الصارمة، منها بروتوكول بورنموث لحماية المقابر الجماعية والتحقيق فيها، الذي يهدف إلى توحيد المعايير القانونية والإجرائية لضمان حماية هذه المواقع الحسّاسة من أيّ تدخّل غير قانوني، والحفاظ على الأدلة التي تحتويها، وبروتوكول إسطنبول الخاص بالتحقيق في مزاعم التعذيب، وبروتوكول مينيسوتا المعني بالتحقيق في الوفيات غير المشروعة، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي ينصّ على تجريم أيّ فعلٍ يعرقل سير العدالة، بما في ذلك تدمير الأدلّة أو تغيير أماكنها على نحوٍ قد ينال من قيمتها الإثباتية. وبموجب هذه البروتوكولات، لا يُسمَح بالوجود في الموقع إلا للفئات المخوَّلة قانونياً، مثل ضبّاط إنفاذ القانون، وخبراء الطبّ الشرعي، والأطباء الشرعيين والمدّعين العامّين. وتُحدّد هذه الفئات بناءً على دور كلٍّ منها في توثيق الأدلة وتحليلها، وكذلك في ضمان الالتزام بالمعايير القانونية الراسخة في جمع المعلومات. على سبيل المثال، يتولّى ضبّاط إنفاذ القانون إعلان الموقع مسرحاً للجريمة، وضبط حدوده، والسيطرة على حركتَي الدخول والخروج، بينما يتمتّع خبراء الطبّ الشرعي بالأدوات والخبرات اللازمة لجمع الأدلّة بطريقة تحافظ على صلاحيتها أمام المحاكم. وتشدّد هذه البروتوكولات على ضرورة الحصول على موافقات رسمية مسبقة قبل دخول الموقع، بما في ذلك استصدار أوامر تفتيش في الحالات التي تخضع لحقوق ملكية خاصّة، أو وجود دواعٍ أمنية تقتضي حماية الأدلة من العبث والضياع. علاوةً على ذلك، تولي هذه الإجراءات عنايةً خاصّةً للمواقع الحسّاسة كالمقابر الجماعية ومراكز الاحتجاز، إذ تتطلّب معايير دولية إضافية لفرض رقابةٍ دقيقة على الدخول ومنع تسريب الأدلة أو نقلها بطرق غير منظمة.
في سورية، لا يجرى التعامل صراحة مع العبث بمسرح الجريمة باعتباره جريمةً قائمةً بذاتها بموجب قانون العقوبات الحالي
تدابير الحفاظ على سلامة مسرح الجريمة
يكتسي الالتزام بضوابط تأمين مسرح الجريمة أهميةً قصوى في ظلّ المخاطر المتكرّرة بفقدان الأدلّة أو تلويثها، خصوصاً في الحالة السورية التي شهدت طوال قرابة 14 عاماً كمّيةً هائلةً من الانتهاكات، خلّفت وراءها أعداداً ضخمةً من الضحايا، وبحسب قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ما زال هناك قرابة 115 ألف مواطن سوري مختفٍ قسراً بسبب نظام الأسد وحده. ولا يمكن تخيّل مدى معاناة أهالي هؤلاء عند مشاهدتهم العبث في مسارح الجريمة. ولذا توصي الهيئات الدولية المعنية، وكذلك منظّمات حقوقية عديدة، باعتماد إجراءات محدّدة لمنع الوصول غير المصرّح به، من بينها تقييد الدخول وإحاطة الموقع بحواجز مادّية واضحة، إضافة إلى توثيق هُويَّة كلّ فرد يدخل أو يغادر المنطقة. وفي حالات الطوارئ، قد يُسمح لفرق الإسعاف الطبّي بالوصول المباشر لإنقاذ الأرواح، شريطة الالتزام بتوثيق كلّ خطوة لمنع فقدان الأدلّة أو تشويه معالمها. كما تصرّ هذه البروتوكولات على وجوب تخصيص حراسة مدرَّبة للمواقع الحساسة، والحرص على إنشاء سجلّ خاص بسلسلة العهدة (Chain of Custody)، يسجّل فيه اسم كلّ شخص يتعامل مع الأدلة، ووقت استلامه لها، والجهة التي سُلِّمت إليها بعد ذلك. ويُفترض أن تواكب هذه التدابير منظومةً أشمل تهدف إلى ضمان فعّالية المسار القضائي في محاسبة مرتكبي الانتهاكات، بما في ذلك تطبيق الممارسات الفضلى في الطبّ الشرعي وحفظ العينات البيولوجية والوثائق الرسمية. ونتيجة للانتهاكات الواسعة التي شهدتها البلاد، تضطلع المنظمات الحقوقية السورية والدولية بدورٍ جوهري في التوعية بضرورة هذه الإجراءات، فضلًا عن دعم السلطات الانتقالية أو المحلّية بتوفير الموارد اللازمة، وتطوير قدرات الكوادر الميدانية، وتثبيت إطارٍ قانوني واضح يفرض عقوبات صارمة على كلّ من يتعدّى على حرمة هذه المواقع أو يعبث بالأدلة بأيّ صورة كانت.
المسؤوليات القانونية
لا يجرى التعامل، في سورية، صراحة مع العبث بمسرح الجريمة أو تغييره باعتباره جريمةً قائمةً بذاتها بموجب قانون العقوبات الحالي. ومع ذلك، تُجرَّم مثل هذه الأفعال بشكل غير مباشر من خلال أحكام قانونية أوسع نطاقًا تتعلّق بعرقلة العدالة وإخفاء الأدلّة وتقويض التحقيقات، فيتضمّن قانون العقوبات السوري أحكاماً تجرّم الأفعال التي تعرقل العدالة أو تدمّر الأدلة. على سبيل المثال، تنصّ المادة 535 على عقوبات شديدة، بما في ذلك عقوبة الإعدام، للجرائم المتعمّدة التي تنطوي على العبث بالأدلة لإخفاء جرائم أخرى.
ويُعدّ العبث بمسرح الجريمة جريمةً جنائيةً خطيرةً في العديد من الأنظمة القانونية في العالم. ففي الولايات المتحدة، يعاقب القانون الفيدرالي (18 U.S.C. § 1519) على التلاعب بالأدلة بالسجن مدداً تصل إلى 20 عاماً، علماً أنّ بعض القوانين الولائية، كقانون تكساس (§37.09)، يشدّد العقوبات في حال تدمير أدلة تتضمن جثثاً بشرية لتصل إلى 20 عاماً سجناً. وفي ألمانيا، يعالج القانون الجنائي (Strafgesetzbuch) هذه الجريمة تحت مواد أبرزها المادة 136 الخاصّة بتدمير الأشياء الخاضعة للمصادرة، والمادّة 258 التي تجرّم عرقلة العدالة. أمّا في فرنسا، فتنصّ المادة 434-4 من قانون العقوبات على أنّ تغيير الأدلة أو إخفاءها بقصد تضليل التحقيقات يؤدي إلى عقوبات بالسجن والغرامة، فيما تشدّد المادة 222-33-3 على تجريم تسجيل أو نشر الصور المرتبطة بالجريمة بصورة تضرّ بكرامة الضحايا. وفي هولندا، تُصنَّف عرقلة العدالة من طريق التلاعب بالأدلة جريمةً تحت المادة 189 من قانون العقوبات، مع إمكانية الحكم بالسجن مدّة تصل إلى ستّ سنوات تبعاً لظروف القضية. وفي كندا، يحظر القسم 137 من القانون الجنائي تلفيق الأدلة بقصد التضليل، مع عقوباتٍ تصل إلى 14 عاماً من السجن، كما يجرّم القسم 129 (أ) عرقلة واجبات الشرطة في موقع الجريمة. وعلى نحوٍ مشابه، ينصّ قانون الجرائم في أستراليا (القسم 317 من قانون الجرائم لعام 1900) على معاقبة التلاعب بالأدلة بالسجن حتى عشر سنوات. وأخيراً، تفرض نيوزيلندا بموجب قانون الجرائم لعام 1961 (القسم 113) عقوبةً قد تصل إلى سبع سنوات لمن يزوّر الأدلة لتضليل الإجراءات القضائية.
العبث بمسرح الجريمة جريمة جنائية خطيرة في العديد من الأنظمة القانونية في العالم
تضع القوانين السابقة مسؤوليةً مباشرةً على السلطات (حكومية أو محلية انتقالية) في الحيلولة دون دخول غير المخوّلين إلى هذه المواقع، وفي محاسبة الجهات المسؤولة بتهمة التقاعس أو حتى التواطؤ في طمس حقائقٍ تهمّ الضحايا وذويهم.
الأحداث الماضية: الآثار والتداعيات
1- تأثير على مسار التحقيقات الجنائية: يرى خبراء القانون أنّ دخول غير المتخصّصين إلى موقع يحتمل أن يكون مسرحاً لجريمة دولية قد يعبث بالأدلّة أو يخلّ بسلسلة العهدة اللازمة لضمان قبول هذه الأدلة في أيّ محاكمة.
2- خطر ضياع الأدلة أو تلوّثها: قد يحتفظ المبنى بوثائق وأوامر اعتقال وسجّلات لأسماء معتقلين، الأمر الذي يجعل ضياعها أو نقلها من مكانها الأصلي، من دون اتباع إجراءات سليمة، تهديداً خطيراً لإمكانية كشف الحقيقة. ويعني هذا ضياع فرصة ثمينة لمعرفة كيفية تنفيذ الاعتقالات وطبيعة الانتهاكات، فضلاً عن تحديد المسؤولين عنها.
التسرّع في استعراض المكان أو تصويره من دون قواعد دقيقة قد يُلحق ضرراً بالأدلة الجنائية
3- انعكاس على حقوق المعتقلين وعائلات المفقودين: يمثّل كشف مصير المعتقلين ومعرفة ما تعرّضوا له أولويةً كبرى لأهالي الضحايا. وأيّ تدخّل عشوائي في المقرّ الأمني يحرم أهالي المعتقلين من نافذة محتملة نحو إنصافهم، خاصّةً إذا انقضت هذه الفرصة، ولم تعد هناك أدلّة تدعم مطالبهم أو تساعد على إثبات تعرّضهم أو ذويهم لأيّ انتهاك.
خاتمة
تشكّل حادثة طلاء نشطاء جدران فرع أمني نموذجاً لصراعٍ متكرّر بين الدور الحيوي للإعلام والنشطاء في الكشف عن الانتهاكات، والحاجة الملحّة للحفاظ على مسارح الجرائم، كالسجون والأفرع الأمنية، والمقابر الجماعية في سورية. ففي حين تسهم التغطية الإعلامية في إماطة اللثام عمّا خفي من جرائم محتملة، فإنّ التسرّع في استعراض المكان أو تصويره من دون قواعد دقيقة قد يُلحق الضرر بالأدلة الجنائية. وفي سياق العدالة الانتقالية التي تهدف إلى ملاحقة مرتكبي الجرائم وترميم النسيج المجتمعي، تصبح حماية أدلّة الجرائم أولوية قصوى. لذا، قد ينعكس أيّ عمل عشوائي سلباً على حقوق الضحايا، ويقوّض جهود المصالحة المبنية على قاعدة "توثيق وتثبيت الحقائق" قبل مرحلة المحاسبة.
في ضوء هذه التطوّرات، تبدو الحاجة ماسّة إلى قيام الحكومة السورية الحالية بوضع ضوابط واضحة تحكم دخول مسارح الجرائم، وتحديد جهة قضائية تُشرف على ذلك. إنّ نجاح أي عملية عدالة انتقالية في سورية يتطلّب احترام مسارح الجرائم والمحافظة على محتوياتها، وإن لم تتحمّل السلطات الحاكمة أو الانتقالية مسؤولياتها فوراً، فقد تجد نفسها أمام تراكم من الحوادث المشابهة، ما يُعقّد أكثر فأكثر مهمّة الكشف عن الحقيقة وإنصاف الضحايا، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات.