عام على حُلول سحر الثورة

عام على حُلول سحر الثورة

22 أكتوبر 2020
+ الخط -

نزلت علينا الثورة متأخرة. سحرٌ خالص. فتنة من الحشود العابرة لكل الفوارق والفئات والطبقات والأجيال. سرَت قشعريرة في الأبدان. وكهرباء البرَكة في الجو. طاقةٌ خرجت من فانوس علاء الدين. وانطلق الحلم، فانشغل الخيال بالحب والجمال والفن والضحك والفكاهة. تغذّيه حمّى تلك الطاقة العالية، وتضفي عليه الغبْطة، البهْجة، وشيئاً كثيراً من طعم السعادة. 

ومقومات هذا السحر كانت جلية. بعد كسل، ونسيان، وتجاهل، وتواكل.. بعد الاعتقاد بأنه مهما نزل علينا من نوائب الحكم، لن نصحو، لن نثِب أية وثْبة، لن نتبوأ التاريخ. بعدما أصابنا الترهّل والنُعاس. بعد لهيب الحرائق والانقطاعات والاختلالات، وغيرها من مصائب العيش اليومي والمصيري.. فجأة، وإثر قرار "سخيف" بزيادة فواتير مكالمات هاتفية، استوطن السحر في ديارنا، ورسم حدوده. لبنان بأسره سوف يقع في أسره الممتع، اللذيذ. سحر وجيه، مقنع. تحت قبّته الواسعة، أنظر إلى ما فعلَ: 

أفرج عن قوة الشباب. بعدما كانت صامتة، مهدورة، لاهية، مهمومة، طافِشة. ها هي هذه القوة تحرّك الدنيا وتنادي بشعاراتها. كان لهم دور أول. حرّكوا المياه الراكدة، والعظام التعِبة. لم يدعوا مجالاً تعبيرياً إلا وأبدعوا فيه: نكتة، رسمة، أنشودة، أغنية، مكاناً، بوسْتر، مسرحية، يوتيوب، شعاراً، هنداماً، مسيرات راقصة. وللشابات منهم ذروة تاريخية بالحضور، والمبادرة، والقيادة والهتاف المبتكَر. وبلا وعي ربما منهم، حدّد الشباب أدوار الكهول الذين انجذبوا للسكن تحت القبّة السحرية: دور الذي ينصحهم، ويملك، من تجربته الماضية، ألف درس ودرس، ودوراً أكثر تواضعاً، يقتصر على النصرة الجماهيرية، والرأي الإيجابي. 

مهاجرون لبنانيون في بقاع الدنيا لم يقاوموا غواية هذا السحر. هرعوا إلى الثورة، منتظمين مجموعات، أو أفراداً، ليشاركوا فيها، حتى تحقيق مطالبها

بقيادة أولئك الشباب، وهذه مدعاة تسمية دورهم بـ"الثوري"، اتّحد لبنان كله. تصوّر أن الطوائف، مسيحيين ومسلمين، والمناطق، الطرفية والجبلية والبلدات والمدن والعاصمة. تصور أن البرجوازي واليساري واليميني والكادح والميسور والأقل يسراً... لأول مرة في تاريخ لبنان، كلهم نزلوا إلى الساحة الواحدة. فيما كانت الحشود قبل ذلك تقتصر على جماهير هذه الطائفة أو تلك، تفدي بحياتها لزعيمها، المنتزِع الأول لحقوق الطائفة من الأيادي الآثمة لطائفة أخرى. 

ولأول مرة في التاريخ الأحدث، تُزال الصفة "الداعشية" عن أبناء طرابلس، مدينة لبنان الثانية. أصبحت "عروس الثورة" بحشودها وتنظيمها وشعاراتها. ولأول مرة أيضاً، يشارك في التجمهر أفراد جاءوا من دون أي دفع، أو تعليمات. أتوا وحدهم. أتوا كمواطنين، ليشاركوا الثوار كل فاصلةٍ من فواصل مبادرتهم. وأحياناً بالسرّ عن بيئتهم. التقيتُ هناك بمعارف يسكنون مناطق مغلقة طائفياً. سألتهم كيف خرجوا من هناك: "على السّكْت طبعاً. يجب أن لا يشعر بنا أحد. وإلا راحت علينا". ومثلهم أمثال، ضربوا، فردياً، من دون حزبٍ أو جمعية، حظراً طائفياً مناطقياً عائلياً، نفسياً، خرَقه سحر الثورة. 

ولا تنس فعله، ذاك السحر، على الروح المعنوية. الفخر بلبنانيتنا. بأننا شعبٌ يستطيع أن يعِد بالتغيير السلمي. من دون تلك الحروب الأهلية المخْجلة التي انتقصت من تاريخنا وصورتنا وحيَواتنا. هوية وطنية جديدة، تقوم على كرامة المواطن، على عدالة العيش، على نظافة الكفّ. 

مهاجرون لبنانيون في بقاع الدنيا لم يقاوموا غواية هذا السحر. هرعوا إلى الثورة، منتظمين مجموعات، أو أفراداً، ليشاركوا فيها، حتى تحقيق مطالبها. مثلهم مثل الثوار، أصابتهم لوثة التفاؤل الشديد، بطوبى منبعثةٍ من بطن الأرزة، تلك الشجرة أبدية الخضَار. سوف يسقط هذا النظام، لأننا نطالب نحن كلنا بإسقاطه، مقيمين ومهاجرين. تلك الحماسة اللامتناهية معْدية. كنتَ تلحظها على وجوه أولئك الشباب، نبْرتهم، شرَر عيونهم. حتى الكهول من بيننا أرادوا أن يصدقوا الحلم. والحلم أيضاً من أفعال السحر، خصوصاً الحلم الذي يتحول إلى حقيقة الحالم. 

كان يجب أن ينسحب السحر في وقت معيّن، فحياته قصيرة، وحُلوله مؤقت. كان ثمة تميمة تحمي هبوط قبته علينا، وانتهى الآن مفعولها. متى؟ ربما بعد شهر وقليل من الثورة، بعد العرض المدني الذي نظمته الثورة بمناسبة عيد الاستقلال. لماذا؟ لأن السحر الثوري كان يستبطن شروطاً غير قابلة للنفاد. التميمة السحرية خبّأت هذه الشروط في أعماق بعيدة. كنا نستشعرها، نحدس بها. ولكننا كنا نؤجلها، كي لا تفوتنا لذّة السحر. فإن سئلنا عن "الأفق"، أفق الثورة، كنا ندرك بأننا لا نعرف. ولكننا أيضاً، لا نمْعن في التفكير بذلك "الأفق". 

"أنا مع الثورة .. ولكن لا تقتربوا من زعيمي"، الطائفي بكل الأحوال. هذه جملة تصف اللاحق من مجريات السحر - الثورة

كانت سوسة ضئيلة في البداية، وأخذت تتضخم. فتفْتر الدوافع وتتناقص الحشود. هذه السوسة هي حرف عطف، واستدراك نما في هذا القليل من الوقت، اسمه "لكن". وإليك لائحة "اللَواكِن". "أنا مع الثورة .. ولكن لا تقتربوا من زعيمي"، الطائفي بكل الأحوال. هذه جملة تصف اللاحق من مجريات السحر - الثورة. شيئاً فشيئاً، وبمؤازرة جنود الدرجات النارية الغازية، والصارخة لزعيمها أو لطائفتها. كلٌ حسب قدرته على التنظيم والحشد. والثنائي الشيعي كان المبادر، الأوثق. تبِعه بعض المقلّدين الباهتين من الطوائف الأخرى.. شيئاً فشيئاً إذن، فعل شدّ العصب الطائفي فعله، وتبعثرت الصفوف، وانسحب مرتادوها. واليوم، انفكّ السحر، بقي القليل من طيفه. تبخّرت الحشود العابرة للطوائف. عادت كل واحدةٍ إلى اصطفافات الحضن الطائفي الدافئ. حضنٌ يحميها من المجاعة والموت، على ما تعتقد، أو تريد أن تعتقد.

ولكن أيضاً، وربما هذه من سيئات محاسن السحر، كانت المجموعات الثورية على مزاجٍ يناقض الأحزاب والعمل الحزبي والبرامج.. كنا نستلطف هذا المزاج. بل نُعجب به. ونراه عائداً إلى خيبة كل الأحزاب على حدّ سواء، ويحْبل ربما بطرق ثورية جديدة. ولكن.. "التعدّد"، والتفلت من "البرامج". اعترتهم الفوضى بعد حين من انطلاقة الثورة. بل شاعَ الحديث عن نرجسية قادة هذه المجموعات، عن "الإيغو" المتضخِّم لدى بعضها، وعن مسؤوليته في "فشل الثورة". وقد أحيته تلك الحالة بالذات: عدم الوحدة، عدم التنسيق، عدم صياغة "برنامج"... فاندرجت النرجسيات الفاقعة تحت "استدراك"، عنوانه "ولكن". ولكن كان يجب أو يحسب ألف حساب لهذا التمايل على أنغام الفوضوية.. ولكن ماذا تفعل بالسحر إذا هبَط؟ 

تسلّلت إلى نفوس الحشود المنتفضة فكرة، وسكنتها. أن النظام الطائفي، الأولغارشي، الفاسد.. إلخ، يمكن أن يسقط بمجرد مثابرتها على مسيراتها المبْهجة

ولكن، ثالثاً، أو رابعاً، تسلّلت إلى نفوس الحشود المنتفضة فكرة، وسكنتها. أن النظام الطائفي، الأولغارشي، الفاسد.. إلخ، يمكن أن يسقط بمجرد مثابرتها على مسيراتها المبْهجة. فيما كان قادة الطوائف يهزأون منها ومن مطالبها، ينسونها في خضم صراعهم الرئيسي: من ينْتش الحصة الكبرى. من تكون عضلاته أقوى. وبقواعد اشتباكٍ صارت محفوظة، فخرج أولئك القادة أقوياء، ثابتين على عروشهم. على تفاهتهم وتهافتهم. كان ثمّة تسرّع، إرادوية، انتصارية، أو تجاهل لقدرة هذا النظام على الاستمرار على قيد الحياة وهو ميّت. 

السحر لا يدوم. والثورات أيضاً. إما تنْكفئ، تنهزم، أو تنتصر. وفي كل الحالات، سحرها يرهق، وينتهي مفعوله. في الهزيمة ينفرط السحر. وفي الانتصار أيضاً، عندما تتحوّل الثورة إلى دولة، إلى نقيض الثورة. وفي الحالتين، هيهات أن تستعيد الثورة سحرها الأول. 

بشاعة وتصحّر وكراهية وانطواء وتقوْقع وانسحاب. والخيال، في هذه الحالة، لن ينشغل باستحضار السحر السابق، لأنه مضى

والآن هنا، دخلت على خط السحر الثوري أحداث كبيرة وصغيرة: سُرقت أموال اللبنانيين، بالمصرف وبغيره. تعطلت الأعمال، وتمادت البطالة، والجوع والتفكّك وأصناف الحروب. الشباب المغتربون الذين حضروا إلى الثورة عادوا إلى مهاجرهم. تلحقهم أعداد أخرى من مجايليهم، إن استطاعوا. وجهة الانتقال، المتحقِّق والمأمول، انقلبت. صارت إلى خارج لبنان، لا إليه. ثم الوباء الذي شلّ الطاقات، وضيّعها، وأوقع الأكثر فقراً في مزيد منه. وأخيراً انفجار المرفأ، وتوابعه من النيران. ولا شيء حتى الآن عن التحقيقات الدائرة حوله. ووجوه هائمة بلا بيوت، وفقر، وتشرّد، وموت يحوم. والمتمّكن من هذه المصائر كلها، ديوك يتناحرون على حصصهم. 

أي: بشاعة وتصحّر وكراهية وانطواء وتقوْقع وانسحاب. والخيال، في هذه الحالة، لن ينشغل باستحضار السحر السابق، لأنه مضى. الآن، على الأقل. ولا تعرف متى يعود، فيسقينا من كأسه .