عام سورية الحرّة

28 ديسمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

صار في وسع السوريين أن يستقبلوا العام الجديد من دون منغّصات، وأن يرموا وراءهم أعوام النكد. سيُضفي سقوط النظام على احتفال هذا العام طعماً خاصّاً، ويعيد مظاهر البهجة التي غادرت حياة هذا الشعب من جرّاء الحرب التي شنّها النظام لقمع ثورة الحرّية والكرامة. حرم حكم الأسد الناس من أبسط الأفراح، وتحوّلت الأعياد مآتم في ظلّ الدمار الكبير في كلّ مكان، وبسبب التكتّم التامّ على أخبار عشرات آلاف السجناء والمخفيين قسراً، بالإضافة إلى تشتّت العائلات في أنحاء العالم كافّة، وعدم قدرتها على التلاقي بسبب القوانين التي عانى منها اللاجئون في بلدان مختلفة.
سقط الخوف بلا رجعة، وبات بإمكان الشعب أن يحتفل للمرّة الأولى، منذ أكثر من نصف قرن، من دون قوانين طوارئ وحكم الحزب الواحد والعائلة الواحدة والمافيات وعصابات اللصوص والقتلة، وسطوة المليشيات الطائفية العابرة للحدود، التي جلبتها إيران لتعيث خراباً، وتمارس تطهيراً طائفياً لمناطق واسعة من حلب ودمشق وحمص ودير الزور. أصبح بوسع السوري أن ينظر بطمأنينة إلى مستقبل بلده وأهله بلا قلق. ولّى الأبد الأسدي وعادت سورية لأهلها، وحان الوقت الذي هرم كثيرون بانتظاره من أجل تأسيس سورية الجديدة، وإعادة بنائها دولةَ قانونٍ ومؤسّساتٍ قائمة على العدالة والمساواة بين جميع أبنائها من دون التمييز الذي أرساه النظام السابق على أسس طائفية ومناطقية.
يحتفل السوريون وهم مدركون أن الوصول إلى هذه اللحظة لم يكن ممكناً لولا الثمن الكبير الذي دفعوه، وكلّفهم عدداً كبيراً من الضحايا، ودماراً وخسائرَ اقتصاديةٍ أوصلت نحو 80% من الشعب داخل سورية إلى خطّ الفقر. رغم الكلفة الباهظة، صار بوسع الناس أن يعيشوا ورؤوسهم مرفوعة، فالحرّية التي حصلوا عليها لم تأتِ هديةً من أحد، لا من الداخل ولا من الخارج، وكان من المستحيل إسقاط النظام لو لم يقل الشعب كلمته وينزل إلى الشارع عام 2011. ومن هنا، فإن الحرّية التي ينعم بها السوريون من صنعهم، وعليهم ألا يلتفتوا إلى الأصوات النشاز، التي تحاول أن تشوّه هذا الإنجاز التاريخي، فأصحابها لا يريدون للشعب السوري أن يستعيد بلده وقراره المستقلّ، لأنهم يخافون من نتائج ذلك. إنهم يخشون من أن تنتقل الحرّية عبر الحدود وتعدي هناك الناس الذين يرزحون في ظلّ أنظمة قمع لا تمتلك شرعيةً سياسيةً. إنهم يقاومون بشراسة وقوف سورية على قدميها كي تستعيد موقعها في معادلة الشرق الأوسط، ومكانتها الحضارية وقدرتها على الإشعاع. يريدون أن يقيّدوها، كي لا تفرد جناحيها وتحلّق عالياً.
ما وصل إليه السوريون ليس نهاية المطاف، بل هو بداية طريق جديد، أوّل محطّة فيه إعادة البناء، ويشمل ذلك ما دمّرته الحرب التي شنّها النظام وحلفاؤه على المحافظات التي ثارت. وهناك تحدّ كبير يحتلّ الأولوية، يتمثّل في تسهيل عودة ملايين المهجرين من دول الجوار؛ تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر. ومن غير الممكن تحقيق ذلك قبل رفع آثار الدمار، وإعادة تأهيل البنية التحتيّة لتصبح البيوت صالحةً للسكن. وبالتوازي مع هذا، ثمّة مهمّة لا تقلّ أهميةً، وهي إعادة بناء مؤسّسات الدولة على نحو مهني، وليس على أساس الولاءات والحزبية والفصائلية، لأن ذلك يلحق الضرر بها ويُفقِدها المصداقية وثقة الناس والمجتمع الدولي، الذي يراقب أفعال الإدارة الجديدة وعلى أساسها سوف يحكم ويقرّر في ما يخصّ رفع العقوبات الاقتصادية، وتقديم المساعدات الخاصّة بإعادة البناء والتعافي. ومن دون شفافية وعدالة وعدم تكرار أخطاء النظام القديم ستكون البداية عرجاء، ولن تستقيم بالنيات والكلام الطيّب، فالشعب الذي قدّم الغالي لن يقبل بالقليل والترقيع وأنصاف الحلول.

شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
شاعر وكاتب سوري من أسرة العربي الجديد
بشير البكر
بشير البكر كاتب وشاعر سوري من أسرة "العربي الجديد" ورئيس تحرير سابق
بشير البكر