عام جيزال أو المرأة العادية

14 يناير 2025

قضية جيزال بيليكو في الصفحات الأولى لعدد من الصحف البريطانية (20/12/2024 فرانس برس)

+ الخط -

تستحق الفرنسية السبعينية، جيزال بيليكو، التي قاضت زوجها بتهمة الاغتصاب مع زمرة من رفاقه، لقب شخصية العام 2024 بامتياز. ليست امرأةً جميلةً ولا شابّة، هي المتقاعدة وربّة الأسرة، ليست أيضاً من نجمات الحركة النسوية، ولا أحد الأصوات النافذة في الحملات النسوية من حراك "مي تو" إلى غيره. هي أيضاً ليست مقتدرةً أو محميةً بموقع أو نظام امتيازات، بقدر ما كانت جريمة الاغتصاب غير اعتيادية، كانت ضحيتها/ المرأة عادية جدّاً، وقد تكون غير مرئية مثل الآف النساء الصامتات خلف معاناتهن.
جيزال بيليكو، إحدى "النساء النائمات" ضحايا ما يسمّى "الخضوع الكيميائي" (Chemical Submission) ، لم تكن تعرف أن سبب تعبها المتواصل وفقدانها الذاكرة والقدرة على التركيز هو حبوب منوّمة كانت تتناولها من زوجها، الذي كان يستغل نومها العميق لاغتصابها مع زمرة من رجال استقطبهم عبر الإنترنت. انتهت القضية التي هزّت الرأي العام الفرنسي بأحكام بالسجن في حقّ الزوج و50 رجلاً، في عقوباتٍ تتراوح بين ثلاثة أعوام و15 عاماً، في حين حكم على الزوج بالسجن 20 عاماً. معظم هؤلاء الرجال الذين وصفهم الإعلام بأنهم "نموذجيون" لكأن حيواتهم عادية جدّاً، لاموا الإنترنت على انحرافهم، وبعضهم ذكر تعرّضه لاعتداءات في طفولته. أحد هؤلاء اعتبر ببساطة أن اغتصاب الزوجة كان عملاً جائزاً لحصوله على إذن الزوج. زوجات بعضهم دافعن عنهم بحجّة أنهم من "أفضل الرجال". كيف يمكن أن نستوعب أن رجالاً عاديين جدّاً يرتكبون جريمةً غير عادية بهذا القدر من الانحراف المقزّز؟!

الإنجاز الأبرز لجيزال بيليكو هو الانتقال من حيّز الضحية إلى موقع الاتهام العلني، وتسليط الضوء على اعتداءات تطاول نساء لا تخرج من عتمة الإنكار أو التجاهل

تحوّلت المرأة السبعينية التي تعرّضت للاغتصاب عشرة أعوام أيقونةً نسويةً للجمعيات والصحافة، لشجاعتها في كسر حاجز "العيب" عبر خيارها علنية المحاكمات، وحضورها، بما في ذلك عرض بعض أشرطة الفيديو التي صوّرها الزوج لعمليات اغتصابها، التي تزيد عن 20 ألف شريط فيديو وصورة. لم يكن خيارها منح "الفضيحة" أكبر حجم من العلنية والانتشار فعل انتقام، كما اتهمها بعض الصحافة الشعبية البريطانية، بل نوع من ردّ الاعتبار الإنساني لها، ولمثيلاتها من النساء العاديات غير المرئيات، اللواتي يتعرّضن لشتى أنواع الاعتداءات. قالت جيزال عن خيارها رفض إخفاء هُويَّتها، وفتح جلسات المحاكمة أمام الجمهور والإعلام، "أريد من كلّ امرأة تستيقظ يوماً من دون أن تتذكّر تفاصيل ليلتها، أن تتذكّر ما قلته كي لا تقع أيّ امرأة ضحية الخضوع الكيميائي. قد ضُحِّي بي على مذبح الرذيلة، وعلينا أن نتحدّث عن ذلك". أقرّ الزوج بجريمته قائلاً: "أنا مغتصب مثل الرجال الآخرين في هذه الغرفة"، وهم مجموعة من الرجال من مختلف الأعمار والمهن الغالبية العظمى منهم متزوجون.
أثارت القضية اهتماماً غير مسبوق من الإعلامين، الفرنسي والعالمي، كما أُطلِقت حملة قانونية محورها تعريف القبول الجنسي (بما معناه) بأنه التصريح الذي لا لبس فيه، إلا أن الإنجاز الأبرز الذي حقّقته جيزال بيليكو هو الانتقال من حيّز الضحية إلى موقع الاتهام العلني، وتسليط الضوء على الاعتداءات التي تطاول نساء لا تخرج معاناتهن عادةً من عتمة الإنكار أو التجاهل. النساء غير المرئيات اللواتي تعتبر معاناتهن أمراً طبيعياً أو متوقّعاً حتى لأنفسهن. وهن غالباً متواطئات مع المعتدين في إخفاء معالم الاعتداء خوفاً من الفضيحة.
بحسب الأرقام الرسمية البريطانية، فإن نحو مائة جريمة تتعلّق بالعنف المنزلي ضدّ نساء وفتيات بُلِّغت الشرطة عنها كلّ ساعة في العام الماضي (2024)، وقد اعتمدت الشرطة أخيراً مبادرةً جديدةً لتفعيل إجراءات التدخّل لمساعدة الضحايا في إطار ما يعرف بـ"قانون رنيم"، في ذكرى رنيم عودة، ووالدتها، اللتين قتلتا على يد زوج رنيم السابق عام 2018، ولم تتمكّن الشرطة من التدخّل السريع، رغم تقارير سابقة عن خطورة وضعها ومحاولتها التواصل مع الشرطة ليلة قتلها مراراً من دون نتيجة. أخيراً أشار تحقيق لصحيفة إندبندنت البريطانية إلى أن اتصالات طلب النجدة بالشرطة خلال مباريات كرة القدم الأوروبية، الصيف الفائت، ارتفعت 13% عن النسبة الاعتيادية في الأيام التي شهدت مباريات فريق إنكلترا، فبلغ عدد الاتصالات إجمالي 3256 اتصالاً في البلاد لطلب المساعدة العاجلة. لا يشمل هذا الرقم الاعتداءات كلّها، إذ يُرجَّح أن 24% من هذا العنف لا يبلّغ للشرطة.

قلبت الضحية جيزال بيليكو المعادلةَ فحقّقت انتصاراً على المعتدي من دون دور البطولة النسوية

أخرجت جيزال بيليكو (غيرت اسمها أخيراً لتزيل أيّ أثر لزوجها من حياتها) قضية العنف الجنسي ضدّ النساء من بريق قضايا نجمات "مي تو" (حركة نسائية اجتماعية مناهضة للتحرش وكل أنواع العنف الجنسي ضد النساء، دعت النساء إلى التحدّث علناً عن تجاربهن مع التحرّش والاعتداء الجنسي)، ومثيلاتها، لتعيدها إلى حيث يجب أن تكون النساء العاديات اللواتي لا تخرج معاناتهن إلى الضوء لاعتبارهن غير مرئيات. قد يقول بعضهم إن الأضواء التي نالتها القضية مردّها فداحة الانحراف الزوجي باعتباره أمراً غير اعتيادي، إلا أن ما هو أكثر خروجاً عن العادية قرار الجدّة السبعينية الضحية أن تخرج عن الصمت، وتعرض نفسها لوابل التغطية الإعلامية، وحملات السوشيال ميديا لشهور من دون أن تتقاعس عن حضور جلسات المحاكمة، أو تنكسر أمام ثقافة العيب. قالت جيزال: "أريد من كلّ النساء ضحايا الاغتصاب أن يقلن لأنفسهن: السيدة بيليكو تمكّنت من القيام بذلك، نحن إذاً قادرون على ذلك".
انتقل الشعور بالعار من الضحية إلى المرتكب، وهو الشعار النسوي الذي رافق المحاكمة في تقدير لخيار جيزال بيليكو العلنية. وهو مسار لا بدّ منه لخروج الضحية وقصّتها إلى الضوء. نالت السيدة الفرنسية إشادة الإعلام العالمي، إذ أطلقت عليها "نيويورك تايمز" لقب "وجه الشجاعة"، وعنونت "الغارديان" في افتتاحية خصّصتها للمحاكمة "شكراً لجيزال من النساء في كلّ مكان". قلبت الضحية المعادلة إذ حقّقت انتصاراً على المعتدي من دون أداء دور البطولة النسوية مع خطاباتها الرنانة، أو إنكار أنّها ضحيّة. فعلتها جيزال إذاً... بإمكاننا جميعاً أن نفعلها، وفي العالم العربي أيضاً. شكراً جيزال.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.