عالم ما بعد المساعدات
ملصق ضد ترامب خارج مقر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في واشنطن (28/2/2025 فرانس برس)
انتهى عصر ما بعد الحرب الباردة بالنسبة للمساعدات الغربية للدول، ومحو الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ليس سوى المثال الأكثر دراماتيكية لزوال المساعدات أو تخفيضاتها الكبيرة التي ستؤدّي، في مدى السنوات القليلة المُقبلة، ٳلى أضرار جسيمة. ومع ذلك، قد ينظر ٳلى ذلك فرصةً سانحةً، وسبباً للأمل في أن يرسل هذا إشارةً مفادها بأنه حان الوقت كي يعتمد العالم على نفسه، ولكن لا بدّ من الألم.
فوضى كبيرة تعيشها الوكالة، بدأت مع تعيين وزير الخارجية ماركو روبيو قائماً بأعمالها، تنفيذاً لسياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ووزير الكفاءة الحكومية، رجل الأعمال، ٳيلون ماسك، الذي يبدو، في نظر عديدين من مؤيّديها، عازماً على تدميرها، ما قد يكون انتهاكاً لسلسلة من القوانين الفيدرالية والدستور الأميركي نفسه. بدا ذلك، وكأنّه حُكم بالٳعدام على الوكالة التي تحتاج إلى إصلاح وتدقيق مطلوبَين "أصبحت الخدمة المدنيّة بيروقراطية وكسولة". لكن التعليق يشير ٳلى تنفيذ سياسات قد تؤدّي ٳلى نتائج كارثية بسبب الفوضى والجمود الٳداري، وتوقّف أنظمة التوزيع عن العمل، فيما نقاشات ترامب وماسك تعامل الوكالة باعتبارها عدواً يخضع لأيديولوجيا إعادة تقييم وتوجيه بما يتماشى مع أولويات السياسة الأميركية أولاً.
ظلّت الولايات المتحدة 50 عاماً أكبر جهة مانحة بـ43% من حجم التمويل العالمي
كان الرئيس دونالد ترامب وقّع في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي مرسوماً يقضي بتعليق جميع المساعدات الخارجية التي تموّلها الوكالة مدّة 90 يوماً، وأعلنت إدارته خططاً لخفض أكثر من 90% من برامج الوكالة والعقود، وتقليص المساعدات الخارجية الأميركية (60 مليار دولار) للصحّة العامّة والمساعدات الإنسانية وإطعام الناس المحاصرين في مناطق الحروب أو الكوارث الطبيعية.
أثار هذا القرار قلقاً واسعاً بين المنظّمات الإنسانية والدول المستفيدة من برامج مساعدة النازحين وقضايا التنوع والشمول ومراكز الٳيواء ومخازن الأغذية. وحذّر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، من أن هذه التخفيضات ستجعل العالم "أقلّ صحّة وأقلّ أماناً وأقلّ ازدهاراً"، كما أن منظّمات الإغاثة رفعت دعاوى قضائية للمطالبة بإطلاق الأموال المخصّصة للأعمال التي جرى تنفيذها بالفعل. تمّ ٳنهاء نحو ألف مشروع في جميع أنحاء العالم، واعتبرت واشنطن المسألةَ مجرّد جدولة بيانات، مسألة وقت قبل أن يموت الناس، أو تكون أرواحهم على المحكّ.
خفض المساعدات سوف يُحدث أثاراً اقتصاديةً على نحو 19 مليوناً في في 16 دولة أفريقية، يعيشون تحت خطّ الفقر، وعلى ملايين الأطفال غير المعالجين من سوء التغذية الحاد. ثمّ هناك فيروس نقص المناعة البشرية، وما يجعل الاستجابة لأمراض مثل الٳيبولا أكثر صعوبةً. أنقذت خطّة الرئيس جورج بوش لمعالجة الأيدز أكثر من 25 مليون شخص من خلال الأدوية. أصبحت الخطة حالياً مغلقةً، عدا عن قطع شريان حياة العاملين في مجال الصحّة العامّة، مع عدم تسليم أدوية الملاريا في وقتٍ يعاني القرن الأفريقي من أسوأ موجة جفاف، ومن تداعيات النزاعات الأهلية، ما يفتح الباب أمام مزيدٍ من التدخّلات الخارجية، وٳعادة تشكيل النفوذ العالمي بعيداً من النموذج الغربي التقليدي.
في سورية، عُلّقت المساعدات الغذائية لنحو مليون شخص، وترك الحرّاس الذين لم يتقاضوا رواتبهم، وظائفَهم مؤقّتاً، في مخيّمات يُحتجَز فيها مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية وعائلاتهم. كما جرى توقيف برنامج مكافحة الٳرهاب، الذي كان يدرّب القوات في أندونيسيا والعراق وليبيا وماليزيا والصومال واليمن. ومن المتوقّع أن يكون لهذه التخفيضات تأثيرات سلبية في برامج تنموية عديدة تدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة في لبنان. وقد أعلنت منظّمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) أنها بصدد تقييم التأثير الذي سيحدثه وقف معظم المساعدات، بعدما طاول ملايين الأطفال، خاصّة في هاييتي، حيث مثّلت المساعدات الأميركية 17% من الميزانية الحكومية للدولة الكاريبية، مساعدات ٳنسانية طارئة، وبرامج صحّية، ومستشفيات، ودفاع عن حقوق المرأة.
غالباً ما يكون تأليف المنظّمات والوكالات والتجمّعات مقترناً بصفة الديمومة والمثابرة. لقد كانت هذه المهمّة في أميركا منذ القرن التاسع عشر، تطوّرت مع تأسيس الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في عام 1961 بيد الرئيس الديمقراطي جون كينيدي، منصّةً رئيسةً للسياسة الخارجية، ومن خلال رغبة الكونغرس (منحها طابع الاستقلالية في 1998) في تحقيقها للكثير من تظهير أهداف الليبرالية السياسية. ولا يقتصر الأمر على المساعدات الٳنسانية، بل يشمل أيضاً التمويل العسكري لدولٍ، مثل ٳسرائيل وتايوان. وكانت أكثر الدول المتلقّية للمساعدات عام 2023 هي أوكرانيا وإثيوبيا والأردن والكونغو الديمقراطية والصومال واليمن وأفغانستان ونيجيريا وجنوب السودان وسورية. أدّى تجميد الاتفاقيات ٳلى ٳلحاق الأضرار البالغة بالوكالة والمنظّمات غير الحكومية، ويعني هذا أن مقاولين عديدين لن يحصلوا على أجورهم في مقابل الأعمال المُنجَزة. لقد اضطروا ٳلى فصل الموظفين وٳبعاد مرضاهم، وترك الطعام يتعفّن في المخازن، وتدرس المحاكم الآن مدى شرعية أوامر التجميد، إذ على الوكالة أن تسدّد دفعات بمئات ملايين الدولارات، في مقابل الأعمال التي جرى التعاقد عليها، ولعمّال وكالة الٳغاثة الكاثوليكية، التي تخدم المحتاجين واللاجئين في تشاد وكولومبيا وأثيوبيا والهند والعراق وجنوب أفريقيا وجنوب السودان، ما سيقتل الملايين من الناس، ويحكم على آخرين بحياة الفقر المُهين للٳنسانية.
أعاقت المساعدات الدولية العقود الاجتماعية، وجعلت الديمقراطيات أكثر استبداداً، وحان وقت بناء قدرات خاصّة
ويُخشَى، في نهاية التسعين يوماً، أن يكون التخطيط لعودة النظام السابق مستبعداً نهائياً، وممّا يشبه تأثير "الدومينو". ذلك أن دولاً مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا صارت أكثر بخلاً، في حين تدرس دولٌ الاستثمار في مزيدٍ من البنية الأساسية، وقد يتقدّم المانحون في دول الخليج العربي واليابان بأموال إضافية، ولكن أيّاً من هذه لن تعوض الفرق. قد تقود الأمور إلى ٳعادة هيكلة عميقة للمنظومة الدولية، وبما هو تفكيك تدريجي لدور المنظّمات غير الحكومية (NGOs)، المحرك الأساس للعولمة والليبرالية الجديدة، إذ ارتبطت المساعدات الدولية بمفهوم تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وأصبح أمن الأفراد معياراً جديداً لقياس الأمن العالمي.
تكافح نحو 38 دولة متضرّرة حالياً لقياس حجم الزلزال. فقد ظلّت الولايات المتحدة 50 عاماً أكبر جهة مانحة (43% من حجم التمويل العالمي)، والتأثير لن يكون اقتصادياً أو سياسياً فقط، بل سيمتد إلى النسيج الاجتماعي، ستفقد النساء المساحة القليلة التي حصلنّ عليها للمشاركة في التنمية، وستتأثّر ملايين النساء في ما يتعلّق بالصحّة وبتنظيم الأسرة. ٳن الأثر لا يتعلّق بالمال فقط، بل بزيادة الدور الذي كانت تقوم به الوكالة، ودور القطاع الخاص عبر الوطني في التأثير على الحكومات، ومواقفها من القضايا الدولية المعاصرة، ومن خلال الاهتمامات السياسية في إيجاد معايير أخلاقية دولية حول الحقوق والقانون الدولي الٳنساني في الأمم المتحدة، وتطوير نواة مجتمع دولي مدني. مع ذلك، من المتوقّع أن يثبت نهاية عصر المساعدات، أنّه فرصة لقرع جرس الإنذار، فالمساعدات أدّت في المقابل ٳلى ٳخفاق القدرة في الديمقراطيات للدول النامية والفقيرة، وأعاقت العقود الاجتماعية، وأصبحت الديمقراطيات أكثر استبداداً، وحان الوقت للتخلّص من التوقّعات المتدنيّة التي تعتمد على المساعدات، والانتقال في بناء القدرات الخاصّة. وهي مسألة تتعلّق بالسيادة والاستقلال الاقتصادي والتنمية الخاصّة.