عالة اسمها "الدكتوراه"

24 مارس 2025

(نجا المهداوي)

+ الخط -

حملة أطلقها منذ زمن عضو مجلس الشورى السعودي السابق، وصاحب وسم "هلكوني" في "إكس"، موافق الرويلي، سبّبت مراجعاتٍ كثيرةً للشهادات العلمية الممنوحة، كما ساعدت في استحداث أقسامٍ في وزارات التعليم العالي في دول الخليج العربي تُعنى بمعادلة الشهادات والتدقيق في مصدرها. وكانت فحوى رسالة الرويلي تتلخّص في أن "نسبة الشهادات الوهمية والمزوّرة في الخليج كبيرة ومقلقة ومفزعة، وأصحابها يحتلّون وظائفَ ومناصبَ مهمّة". وضمن هذه التفاعلات والأصداء، مقال نُشر قبل أيام في صحيفة الرؤية العمانية، بتوقيع عبد الوهاب البلوشي، تحت عنوان "دكتوراه في الجهل"، لاقى تفاعلات في وسائل التواصل الاجتماعي.
انتقد البلوشي في مقاله حتى الحاصلين على شهادات مصدقة، بطرق طبيعية ومشروعة، فأغلبية حملة هذه الشهادات (بحسب وجهة نظره) لم يسعوا للحصول عليها إلا من باب الوجاهة الاجتماعية والقفز في مراتب الوظيفة، وما إن يتحقّق لهم هذا الهدف لا يحرّكون ساكناً بعد ذلك، ليطاول شهاداتهم الصدأ، فلن تجد أيّ مشاركة علمية تعقب الحصول على لقب الدكتوراه، وهو لقبٌ تتويجي لمسار علمي متسلسل، يجب أن يعقبه استمرار وفعّالية في الحياة البحثية، وليس مجرّد واجهة كرتونية أو لقب فضفاض فارغ من محتواه الأصيل، ليقف عند حدود ما أطلق عليه الكاتب بـ"الوسام الاجتماعي". وقد حذّر الكاتب من تدهور قيمة العلم، وإن كانت الحالة عامّة لا حدود لخريطتها الجغرافية، ليظلّ بحث الدكتوراه المسبوق بفلسفةٍ ورؤية، والمبني على معالجةٍ لإشكالية ثقافية أو علمية مسنودة بفرضيات وقرائن، هو الأجدر بالبقاء والتداول والاستفادة المستمرّة منه. ومن المقالات المنسجمة مع مقال البلوشي والمُؤكِّدة له ما كتبه في الصحيفة نفسها صاحب كتاب "جدلية الذات بين الفكر والواقع"، الاقتصادي العُماني مرتضى بن حسن بن علي، تحت عنوان "العودة إلى موضوع دكتوراه في الجهل"، مشيراً إلى معلومةٍ مفادها بأن أول من نحت مصطلح "دكتوراه في الجهل" عالِم المستقبليات المغربي، الراحل المهدي المنجرة، حين استخدمه في سياق انتقاده الأنظمة التعليمية والسياسية في العالم العربي، ذاهباً إلى أن هذه الألقاب الجامدة إحدى نتاجات العولمة والتبعية، ساهمت في تهميش المعرفة العميقة، بهدف ضمان التبعية للآخر الغربي.
ومن شأن هذا الأمر (الاهتمام بلقب الدكتوراه واجهةً اجتماعيةً) أن يجعل هؤلاء يُقحمون أنفسهم في كلّ مجال، بحجّة أن لهم الأولوية لأنهم يحملون لقب دكتور. سنلاحظ ذلك بكثرة في أوقات الترشيحات للمجالس النيابية والشورية، حين يبرز المرشح نفسه دكتوراً قبل كلّ شيء، لكسب الأصوات، والناخبُ من ثَمّ (نظراً إلى بساطته) يمكن أن يظنّه دكتوراً في الطبّ. في هذه الحالة، ستكون شهادة الدكتوراه عالة علمية، فحامل هذا اللقب مطالَبٌ (أو هكذا يُفترض) بأن يبني على إنجازه معارفَ جديدةً ومستمرّةً، وفي حالة توقّف تحصيله العلمي عند الشهادة العليا، بالحصول على لقب الدكتوراه، من المُفترَض أن يضعه هذا الأمر في إحراجٍ مستمرّ، أو يدفعه إلى المساهمة في أمر هو عاجزٌ أو متراخٍ عن إنجازه. كما يحصل عند بعض المسؤولين في المناصب العليا الذين حرصوا (بأيّ طريقة) على الحصول على الدكتوراه من أجل إتمام مراسيم الوجاهة، ولكنّهم ما إن يُحالوا على التقاعد حتى يختفوا نهائياً من واجهة الحياة. وربّما في قرارات أنفسهم يتمنّون أن يختفي كذلك هذا اللقب، لأنه يتطلّب أعباءً مستمرّةً ومساهماتٍ ومطالباتٍ يجب ألّا تتوقّف.
في هذا السياق، أتذكّر حادثةً في التسعينيّات، حين عملتُ في مجال الأنشطة الطلابية الجامعية، يوم استعنتُ بدكتور يعمل في وزارة حكومية ليعرض عصارة تخصّصه للطلبة في إحدى الكلّيات. بعد المحاضرة، تسلّمت تعليقات عديدة من الطلبه مفادها بأن هذا الدكتورلا يفقه من تخصّصه ما يمكنه أن يفيد، وكان يتهرّب من معظم الأسئلة، حتى البسيط منها، وقد فسّرت حينها ملاحظاتهم على أنها "دلع طلبة"، خاصّة أنني لم أكن ضمن الحضور، بسبب وجودي في عملي بالوزارة. وبعد سنوات من هذه الحادثة الصامتة، وقد فُعّل موضوع الكشف عن الشهادات العلمية المزوّرة، فوجئت أن الرجل كان ممّن أُعلنوا من بين من سُحبت منهم شهادات الدكتوراه.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي