ظلال عائشة عودة
ساوت جائزة ابن رشد للفكر الحر بين السجنيْن، العربي والإسرائيلي، بمنحها، الأسبوع الماضي، لأسيرةٍ فلسطينية محرّرة وسوري ومغربي حُبسا في بلديهما، وكتب ثلاثتهم نصوصاً في السيرة وأدب السجون. وهذه مساواة كاشفة (هل هي صائبة؟)، لا تنشغل بها هذه السطور، بل تغتبط باحتفاء جميل بادر إليه أعضاء لجنة الجائزة، (بينهم الشاعر والروائي المغربي، محمد الأشعري، السجين الأسبق الذي صار وزيراً) تجاه المناضلة الفلسطينية، عائشة عودة، والتي تحرّرت من الأسر في 1979، بعد عشر سنوات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأصدرت كتاباً عن مقطعٍ منها، بعد 25 عاماً على انقضائها، أعقبته بكتابٍ مكمل بعد ثماني سنوات، وقد نشطت عودة بشأن توثيق نضال الحركة الأسيرة النسوية الفلسطينية، بتكوينها "رابطة نساء أُسِرْن من أجل الحرية". وجاء بيان جائزة ابن رشد على كتابيها "أحلام بالحرية" (طبعتان، ثانيتهما عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر) و"ثمناً للشمس"، وعلى كتابي زميليها في الجائزة، "القوقعة" للسوري مصطفى خليفة، و"تزمامارت .. الزنزانة رقم 10" للمغربي أحمد المرزوقي.
كانت بادرةً ثمينة أَن مدرّسة الرياضيات السابقة والفدائية الشجاعة، عائشة عودة، دوّنت، بتلقائية، مرارة الأسر الطويل، في عملين سرديين، ليس قضيةً كبرى تصنيفهما أدباً أم جنساً من الكتابة التسجيلية، وقد أنجزتهما بتشجيع من أصدقاء وكتاب وناشطين، معنيين بحماية الذاكرة الفلسطينية، وبأن تُحفظ للألم الفلسطيني الطويل كرامته، بتوثيق سرديته المديدة والمتنوعة، لا سيما وأن الفقر شديد جداً في كتابة هذا الألم في سجون العدو الصهيوني. وهذه الكتابة فريدة بطبيعتها، وفي جوهرها، ومتعددة الزوايا، ولأنها كذلك، فإنها من الأدب ومن غيره، ففيها السيرة والرواية واليوميات والمذكرات وغيرها. وفي محلها تماماً إشارة عزمي بشارة، في تقديمه دراسةً نوعية للأسير وليد نمر دقة، إلى "إن للكتابة عن السجون حساسية لا يدركها إلا من عاشها، فالأسرى منشغلون بأدق التفاصيل، تستحوذ عليهم أمورٌ تبدو خارج السجن قليلة الأهمية، ولكنها تبدو مصيرية للأسير". (مركز الجزيرة، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010). وقد كتبت عائشة عودة في "ثمناً للشمس" إن الأشياء الصغيرة في السجن تصبح عالماً قائماً بذاته. ولأنها أنجزت هذا الكتاب وسابقه، من الذاكرة البعيدة، فقد غلبت على سردها رواية وقائع منتقاة بهدف تأكيد مقولة الصمود في مواجهة السجان المحتل. وربما كان فريداً أن عائشة عودة جعلت التحقيق الإسرائيلي معها، في 45 يوماً، بعد القبض عليها عقب قيامها بعملية فدائية في القدس، موضوع كتابها الأول، وبعد سنوات، أفردت الثاني لسيرتها، ولسنوات الأسر خصوصاً.
تأخذنا لجنة جائزة ابن رشد إلى هذا الموضوع، المهمل غالباً في النقاش العام بشأن المدونة السردية الفلسطينية، فنتذكّر أن عائشة عودة وحدها (في حدود علمي)، من كتبت عن تجربتها، من بين من أُسرن في سجون العدو، وهن عديدات، منهن رسمية عودة وشادية أبو غزالة وعبلة طه في طور مبكر، ولاحقاً ميرفت طه وإيمان غانم اللتان وضعتا مولوديْهما في الزنازين، وسمر صبح التي ولدت طفلها في عملية قيصرية مقيدة اليدين، وغيرهن كثيرات، من شديد الأسى أن ملحمتهن الكفاحية، في نضال المرأة الفلسطينية والحركة الأسيرة، تحتاج إلى من يكتب كل الألم الباهر فيها، وكل الصمود الباسل في غضونها.
لم يكتب سعيد العتبة والراحل محمود أبو السكر (31 عاماً و27 عاماً في الأسر)، ولا غيرهما من أسرى مناضلين. ربما ليست لديهم ملكة الكتابة. ولكنْ، ثمّة من في وسعهم اللقاء بهم لتسجيل رواياتهم، كما إنجاز الشاعر محمد القيسي كتابه "الهواء المقنع" مع أبو علي شاهين، وقبله هشام شرابي في "النضال الصامت" مع صالح برانسي. ثمّة الكثير مما يمكن صنعه، إذن، لإنقاذ حكاية كفاحٍ فريدة، خاضتها مناضلات فلسطينيات في مواجهة السجن الإسرائيلي بصمود، وهذه جائزة ابن رشد تُباغتنا بوجوب هذه المهمة، عندما احتفت بذاكرة امرأةٍ فلسطينية وظلالها.