ظاهرة المستريحين وانعدام الثقة في الاقتصاد المصري

ظاهرة المستريحين وانعدام الثقة في الاقتصاد المصري

22 مايو 2022

يلتقط نقوداً من صراف آلي في القاهرة (21/3/2022/Getty)

+ الخط -

انتشرت، في الأسابيع الماضية، فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي لعدد من "اليوتيوبرز" والمؤثرين، يحذرون المصريين فيها من الوقوع في فخّ المستريحين، وتحديدا أحد مستريحي أسوان، المحافظة الهادئة، المدعو مصطفى البنك، لتتحرّك الحكومة لاحقا لاتخاذ إجراء ضده بعد عجزه عن سداد مستحقات ضحاياه الغلابة، لتنطلق عدة تحليلات وتساؤلات بشأن استغلال الرجل الدين تارة، أو بشأن النظام المصرفي والاقتصادي، لماذا لا يصل إلى هؤلاء الناس، مثل مصطفى البنك، أو عن ثقة الناس في هذه الأنظمة البنكية والمصرفية، في ظل سياسات الشمول المالي والوعود المتراكمة بتضمين الاقتصاد غير الرسمي.
كل هذه الأسئلة مهمة، خصوصا في ظل تكرار وجود ظاهرة المستريحين هؤلاء واستمرارها، ولتقريب المفهوم من القرّاء، فإن المستريح في الصحافة المصرية والواقع المصري هو ذلك الشخص القادر على جمع أكبر قدر ممكن من السيولة المالية عبر دائرة معارفه، بغرض تشغيلها مع وعود بأرباح خيالية أعلى من كل المعروض في أي نشاط اقتصادي تقليدي، أو حتى غير تقليدي، ولكن عادة ما يكون هذا الشخص نصّابا محترفا، بقدر احترافية نصّابي التسويق الشبكي.
العجيب أننا أصبحنا نسمع عن مستريحين يجمعون أموالا طائلة عبر سنواتٍ من العمل في هذه النصبايات، من دون أن تجري ملاحقتهم أو التحقيق بشأنهم، إلا عندما يتعثرون، وكأن هذا نشاط مسكوت عنه ومسموح به حتى تحدُث كارثة، فبعضهم يتحدث عن قدرة مستريحين على جمع مبلغ يتراوح بين مائتي مليون جنيه ونصف مليار جنيه، من دوائر شخصية ضيقة في نطاق بعض القرى المحيطة به، أو في نطاق مركز ومدينة على أقصى تقدير.

ترويج النجاح باعتباره القدرة على النمو السريع حد الاحتكار والكسب السريع وتحقيق الربح المرتفع بأقل جهد ووقت ممكنين

لتفسير ظاهرة مستريح أسوان، انطلقت أغلب التحليلات من أن الرجل يستطيع خداع هؤلاء الناس، عبر الدين والتصوف والدروشة وحلقات الذكر التي يقيمها، ليبرهن على قوته وقدرته على ذبح عشرات الرؤوس وتوزيعها على الناس، تعبيرا عن ورعه وزهده في مال الناس. والحقيقة أن هذا الادعاء، وإن كان يصلح جزئيا للتفسير إلا أنه مختلّ، فالحركة الصوفية منتشرة في عموم مصر وحلقات الذكر هذه تقام منذ قرون، من دون أن ينجم عنها مثل هذه الظاهرة من النصب والاحتيال المالي والاقتصادي واسع النطاق.
الأعجب من هذا أن الطرق الصوفية، طوال تاريخها الحديث، هي تحت سيطرة الدولة والنظام السياسي وسلطانهما وسطوتهما، وهي تابعة له تبعية مطلقة لا تنكرها، بل يفخر بها قياداتها ومنتسبوها، وربما تقدّم تقارير أمنية بشكل دوري عن كل النشطين بهذه الطرق، تأكيدا لولاء قياداتها ومنتسبيها للدولة المصرية بفخر واعتزاز، فكيف لم تتنبه هذه الطرق إلى مثل هذا المستريح؟ وهنا نجد أن مصيدة الدين أو مقولات الدين أفيون الشعوب أو متلازمة استخدامها في التفسير عند النصابين أو النشطاء على مواقع التواصل غير مجدية في تفسير مثل هذه الظاهرة، لينتقل بنا التحليل إلى الأسباب الأقرب إلى الحقيقة لمثل تلك الظواهر. وبالتالي، لا يتعلق الأمر بالهوس الديني أو بالتصوّف فقط، كما تذهب تحليلاتٌ سطحيةٌ ومسطّحة للواقع، بقدر ما يرتبط بانعدام الثقة بالدولة والبنوك والاقتصاد.
ومبدئيا، كل شيء في النظام الاقتصادي النيوليبرالي المصري الحالي يصبّ في صالح ترويج النجاح باعتباره القدرة على النمو السريع حد الاحتكار والكسب السريع وتحقيق الربح المرتفع بأقل جهد ووقت ممكنين، فكل الأنظار تتجه إلى المضاربين في البورصات أو "اليوتيوبرز" أو بعض من تحقق شركاتهم قفزات سريعة حتى وإن كانت غير منطقية، هذا هو النموذج الإبداعي للعمل بالنسبة لأي مواطن تحاول الدعايات كلها جعله استثنائيا من دون أية مؤشّرات على هذه الاستثنائية.

أزمة ثقة حادّة في الاقتصاد المصري بكل قطاعاته، تُترجم في تفوّق الاقتصاد غير الرسمي على الرسمي

انطلق تفكير هذا المدعو، مصطفى البنك، من وضع يجد المزارعون فيه في أزمةٍ خانقةٍ بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف بشكل جنوني، في وقت تريد الحكومة فيه الحصول على طن القمح منهم بأقل من سعر طن الأعلاف، فلا يجد هؤلاء بدّا من بيع مواشيهم بأي ثمن، للتخلص من الخسائر المتزايدة المحتملة، وهنا يتحوّل هذا المستريح إلى عصا سحرية، حيث يعرض سعرا أعلى بكثير من سعر السوق، ولكن عبر طريق البيع الآجل.
ولكن أي متابع عن قرب لأسواق المواشي، تاجرا صغيرا كان أو مربيا يجد أن هذا النوع من التعاملات الآجلة المبنية على الثقة منتشر بشدة، وأن أموال أغلب التجار منتشرة في السوق، وديونهم كذلك، وأغلب التجار الصغار لا يعملون بمالهم الخاص، بل بأموال البائعين والمشترين، فهو أقرب إلى السمسرة والوساطة في عملية البيع، ورصيد مال التاجر هنا هو كلمته والثقة فيه. وفي وقت تعرض البنوك أكبر فائدةٍ ممكنة على الشهادات، لأجل سنة كاملة 18%، لا يمكننا أن نلوم أشخاصا عاديين فقط، لأنهم باعوا لأحد التجار بسعر أعلى من سعر السوق بـ 25% أو 50%، فأسعار السوق في تجارة كالمواشي نفسها غير معلومة ومتباينة ومتقلبة وفقا لعشرات العوامل من محافظة إلى أخرى، بل ومن مدينةٍ إلى أخرى، داخل المحافظة نفسها. ومن هنا يحصل التجار على مكاسبهم.
هناك أزمة ثقة حادّة في الاقتصاد المصري بكل قطاعاته، تُترجم في تفوّق الاقتصاد غير الرسمي على الرسمي، سواء من حيث عدد المشروعات أو قدرتها على التشغيل، مع انسداد قنوات التمويل وأدوات الاستثمار في وجهها في مقابل فتحها بشدّة أمام الكبار في السوق، فإذا كان كبار المستثمرين ومؤسّسات الائتمان والتصنيف الدولية لا يثقون في الاقتصاد المصري، وبالسياسات المالية والاقتصادية المتخبّطة الحالية فلا يمكن أن يُلام مواطنٌ يحاول تحقيق ربح من تربية مواشيه، بل على الدولة أن تحميه من مثل هؤلاء المستريحين أولا، ثم تتفهم واقعه وتحاكي تفكيره، وتوجد له أوعية استثمارية وادّخارية تناسبه، لا أن تنهره هي وإعلامها ومحللو "السوشيال ميديا" فيها، فالمواطن الذي يجب مراعاة ثقافته في التعامل مع البنوك لا يجد فيما هو مطروح بخصوص الشمول المالي سوى مجموعة أدواتٍ لتحصيل أكبر جباياتٍ ممكنة، سواء عبر تحصيل مصاريف حساب أو سحب أو إجراءات معقدة من دون تقديم مزايا حقيقية له تمكّنه من الدخول إلى سوق التجارة في المعادن النفيسة والأسهم والسندات أو حتى العملات الرقمية في مراحل متقدّمة، كما هو متاح في بلدان عديدة، لكل من لديه حساب بنكي وتطبيق بنكي على هاتفه المحمول.

واقع تشكّل معدلات التضخم الجنونية وتقلبات العملة وضعف قدرة قوانين التجارة والاستثمار على حماية الصغار أهم ملامحه

ولا يتعلق الأمر فقط بالمواطنين المصريين الريفيين الذين تفترض فيهم تحليلات سطحية السذاجة، أو تدّني المستوى التعليمي، أو الغباء أحيانا، بل بالنخب المتعلمة تعليما فائقا، سواء كانت في الريف أو المدينة، من العاملين لحسابهم الخاص على الإنترنت أو المعروفين بـ"الفريلانسرز"، وهؤلاء، وفقا للنظام المصرفي الحالي، لا يستطيعون فتح حساب مصرفي أو الحصول على قرض سكني، أو إثبات مهنتهم لإجراء بعض المعاملات الخاصة بالسفر أو الحصول على مستحقاتهم المالية في الخارج والداخل من دون التحايل على نظام مصرفي عقيم كهذا، يستبعد غالبية المصريين جرّاء إدارات وقوانين متكلسة. 
وفي واقع تشكّل معدلات التضخم الجنونية وتقلبات العملة وضعف قدرة قوانين التجارة والاستثمار على حماية الصغار أهم ملامحه، فمن دون إيجاد قنوات وأدوات استثمار متعدّدة للأفراد، لامتصاص فائض السيولة ودعم الاقتصاد غير الرسمي وطمأنته ودفعه ذاتيا نحو الرسمية، وطرح بدائل تقطع الطريق على كل مستريح، لا يمكن الهرب من الأزمة بالحديث عن تبريرات أخرى لظاهرة المستريحين، أو حتى الحديث عن قضاء ممكن ومحتمل على هذه الظاهرة.