"طوفان الأقصى" بنيوياً

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
في أوقات جائحة كورونا، أصدر كتّاب وأدباء عرب عديدون كتباً تستكنه شعورياً يوميات الجائحة، ما دعا إحدى دور النشر العربية إلى تسمية سلسلة ضمن منشوراتها بـ"دفاتر كورونا"، وهذا طبيعي، لأن الكاتب بحساسيته المرهفة عانى تلك الأيّام الصعبة معاناةً مباشرةً ويوميةً، وقد عبّر عن تفاصيلها الشعورية.
ونحن نعيش التفاصيل الدامية لـ"طوفان الأقصى"، والكاتب (والمثقّف العربي عموماً) يعيش بعواطفه ووجدانه يومياً وقائع وأحداث حمّام الدم المكشوف نتيجة العدوان الذي تمارسه القوة الصهيونية الغاشمة على شعب أعزل في قطاع غزّة، حيث لا فرق بين من يحمل سلاحاً أو ذلك الذي يحمل طفلاً. ومشاهد الجنود الإسرائيليين الذين يتفاخرون بقتل المعوّقين شاهد على الاستفزاز الذي يستحقّ التأليف. تُكتب مقالات عديدة ويومية في مختلف الصحف العربية، وهناك كتب ومؤلّفات ربّما لا يعرفها كاتب هذه السطور، مثل الكتاب المشترك بين الفنّان عبد الله بن عباس والقاصّ أنيس الرافعي، الذي نشرت بعض صفحاته في "فيسبوك"، ولكن هنا مقارنة فقط، بين كثرة ما ألّف من كتب في زمن جائحة كورونا وقلّة ما ألّف في زمن حرب الإبادة في غزّة، التي ما زلنا نعيش فصولها الدامية بأعيننا ووجداننا في كلّ لحظة، ما أضفى مسحةً عميقةً من الكآبة على مشهد الحياة في العالم العربي برمّته.
نشر أخيراً الناقد المغربي سعيد يقطين كتابه "سردية طوفان الأقصى... لا أمن بلا سلام"، (خطوط وظلال، عمّان، 2025). ومن يقرأ صفحات هذا الكتاب الأكثر من 150 يعيش مع عمق فكري يسبر الحالة الطوفانية (إن صحّ التعبير)، إذ استخدم مهندس النقد العربي (يقطين) عدّته النقدية العتيقة في اجتراح رؤى وإضاءة عتمة الحالة الطوفانية، وربطها بأبعاد آنية وتاريخية.
الكتاب مقالات سبق للكاتب أن نشرها منذ اشتعل "طوفان الأقصى"، ولكنّه حين دمجها في كتاب وضع لها بنيةً إطاريةً جامعةً، وأنهى كلّ مقال منها بسؤال مفتوح. كما أنه جدّد مصطلحات ومنحوتات سبق أن قرأناها في كتبه المرجعية السابقة، وهي تسهم في تحليل سرديات وروايات عربية بمناهج حديثة، من منطلق توطين مصطلحات سردية بنيوية ونبيئتها، وإجرائها على متون سردية عربية. ولكن هذه الحقيبة المصطلحية، هذه المرّة كانت تخدم قضيتنا العربية الواقعية الدامية التي ما زلنا نعيش فصولها قطرةً قطرة. فمصطلحات سردية من قبيل "الخبر" و"الراوي" و"الدعوى" و"الحدث" وغيرها من عدّة "علم السرديات"، الذي طالما نادى بها صاحب "قال الراوي"، و"الكلام والخبر"... دحرجها هذه المرّة في أرض الواقع، لتقرّب لنا الأبعاد العميقة للمأساة المتمثّلة في تجديد الهيمنة الغربية على العالم الثالث بصفة عامّة، والعربي بصفة خاصّة: "لو قارنا عدد ضحايا البشرية قبل هيمنة الحضارة الغربية بما تحقّق خلالها، لوجدناها حضارة ذات مدلول دموي، وإن كان الدالّ الذي توظّفه ناعماً" (صفحة 65).
كتاب "سردية طوفان الأقصى" مليء وشامل، ومتتبّع لدقائق الحالة الطوفانية، يدلّ على أن الكاتب عاش هذه الدوخة الدموية بأعماقه، وكبّلته بسوادها كما كبّلت السواد الأكبر من الأمّة العربية العاجزة عن فعل شيء. يقول الكاتب في الصفحة 131: "التقيت الشاعر المكناسي المرحوم السي عبد السلام المكناسي، في شارع محمد الخامس بالرباط، مباشرةً بعد توقّف العدوان الثلاثيني على العراق، فسألته عن صحّته، فأجابني بالحرف: "لقد خرجنا من هذه الحرب منهوكي القوى". وجدتني أتذكر هذه العبارة مع بداية الهدنة في غزّة، مع فارق كبير بين الحربين. لقد عشت منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وإلى الآن، كابوساً جعلني شارداً أتنقل بين وسائل الإعلام، والقنوات، وكلما توصلت إلى تلقي أقصى جرعات التوتر والقلق، كنتُ أتحوّل إلى القنوات التي تقدم أقلام العنف، والخيال العلمي من السينما الهوليودية. كانوا في البيت يتعجبون من مشاهدة هذه الأفلام، فلم يكن جوابي سوى تأكيد أنها أفلام "الواقع الخيالي" الذي يعلو على "الواقع الحقيقي"، بل إنها أكثر لا طبيعية من أراجيف "السرديات غير الطبيعية"، لأنها تؤدي إلى جعل الواقع الحقيقي محاكاة لها ليس غير".
ينبني الكتاب على مقولة "لا أمن بلا سلام"، مؤكّداً أن سعي إسرائيل إلى التطبيع مع الدول العربية لن يجلب لها الأمن، ما لم تطبّع مع أصحاب القضية. وحلّ الدولتَين أساس السلام والأمن، أمّا الأساطير فلا تصمد أمام الوقائع والتواريخ.


كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية