طفولة واستثمار رخيص

09 يونيو 2025

(Getty)

+ الخط -

أثار مقطع فيديو انتشر واسعاً في العراق والوطن العربي موجة من الاستياء والاستهجان والغضب. وقد ظهرت فيه أمٌّ تدفع ابنتها ذات السنوات العشر بعيداً عن مرمى كاميرا محمولة لمحطّة تلفزيونية محلية في أحد شوارع بغداد، ليس حرصا على خصوصية الطفلة، بل برّرت الأم ذات مستوى الذكاء المنخفض هذا للمذيعة بأن ابنتها "جلحة" لا تصلح للظهور، ما يعني، باللهجة العراقية أنها قبيحة الشكل. وبدلا من استدراك الموقف والالتفات الى الصغيرة المكسور خاطرها، علقت المذيعة منفوخة الملامح لفرط الحقن، والتي لا تقل غباء وانعدام إحساس عن ضيفتها ذات الشعر المصبوغ بالأصفر الفاقع، بأن البنت ليست جميلة كأمها، بل وسحبت الأم بعيداً عن البنت، وأخذت تكيل المديح والإطراء على جمالها المصطنع. ... ظلت الفتاة المكسور خاطرها على الملأ مكتفة اليدين، محتفظة بابتسامتها في ثبات انفعالي يصعب على البالغين. ولعلها لم تدرك أن ما تفوّهت به أمها الرعناء يعد إساءة معاملة وتنمرا يستوجب العقوبة. وقد تضامن معها وطيّب خاطرها فنانون وإعلاميون ومتابعون عديدون. وفي محاولة أكثر فشلا من محاولة ماكرون تبرير الموقف إثر الصفعة المتلفزة من زوجته، مدعيا أنها مجرّد ممازحة زوجية، ظهرت الصغيرة في مقطع جديد، لُقّنت فيه، كما يبدو، بضع أكاذيب واضحة وكلمات شكر للمتضامنين معها، بالقول إن ذلك أسلوب الست الوالدة في تدليعها.

وقد ابتلينا في الأردن بامرأة عدوانية من حيث التكوين مشكلجية ردّاحة، ذات صوت منفر وأسلوب سوقي فج، تصرّ على إظهار ابنها في مقاطع فيديو رائجة على نطاق واسع، رغم ثقل ظلّها وعدم طرافتها. وفي كل مقطع، تبالغ في حشو الطفل بكميات هائلة من الطعام، حتى زاد وزنُه بدرجة كبيرة، وتعمل على إشراكه في معاركها الافتراضية القائمة على الشتم بأقذع الألفاظ والتجريح والخوض في الأعراض، ما عرّض الطفل الموشك على بلوغ مرحلة المراهقة للتنمّر والسخرية في الشارع والمدرسة. ولم يسلم هو نفسه في مقاطع كثيرة متداولة من تقريع والدته ذات الذكاء المحدود وتنمرها، من دون ان تتعرّض للمساءلة القانونية من حماية الأسرة (كما نفترض)، على ما تبثه من محتوى هابط ينطوي على إساءة بيّنة للطفل المغلوب على أمره.

وثمّة سيدة سورية مقيمة في أميركا، مفترض أنها متعلّمة وواعية، غير أنها لا تتوانى عن استخدام ابنتها التي لم تتجاوز العامين في بثوثٍ وإعلانات تجارية تحقق لها أرباحاً طائلة. ... صحيح أن الصغيرة خفيفة الظل، بوجنتيها المكتزتين وطريقة لفظها الكلمات، لكن ذلك ليس مبرّراً لاستغلال براءتها وعفويتها تجاريا، لأن في ذلك انتهاكاً لخصوصيّتها واعتداء على إرادتها، فالعالم مليء بالأطفال الظرفاء الذين يستحقّون الخصوصية والأمان الأسري وعدم التعرّض للعامة، وذلك من أبسط حقوقهم على ذويهم، غير أن الجشع وقلة الوعي وعدم الإدراك يجعل بعض الأهل غافلين عن مخاطر عرض صغارهم بضاعة متاحة للفرجة، حتى لمرضى النفوس من المتحرّشين بالأطفال، لكنهم يتغاضون عن ذلك، مقابل الكسب الرخيص غير المشروع الذي تحقّقه بثوثهم غير المسؤولة.

وعلى الجهات المختصة في كل بلد، تظهر فيه مثل هذه النماذج المستهترة التي أعماها الطمع وشهوة الظهور أن تتخذ إجراءات حازمة تجاه هؤلاء ممن يجعلون من أطفالهم اسثماراً رخيصاً، متناسين أنهم أمانة في أعناقهم، عليهم حمايتهم برمش العين، وربما عليهم، من باب التوعية، متابعة برامج وثائقية عن الحيوانات في "ناشنول جيوغرافيك"، علّهم يتعلمون من الحيوانات في البرّية، كي تحافظ على صغارها، وكيف تضحّي بنفسها من أجل سلامتهم، لعلهم يفقهون ويدركون أن ما يقومون به هو شكل من الاتجار بالبشر، وخيانة للأمانة وغدر بأطفالٍ لا حول لهم ولا قوة، ولتلك الفئة المؤسفة نقول: "حكّموا ضمائركم وراجعوا أنفسكم وفكروا بمستقبل أولئك الصغار الذين سيكبرون يوماً، ويدركون ما جنت أيديكم بحقّهم ويسألونكم بأي ذنب جعلتم طفولتنا مشاعا؟".

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.