طفولة منهوبة

طفولة منهوبة

21 سبتمبر 2020

(بوتيرو)

+ الخط -

لا شيء يبعث على الغضب والحزن، في هذا الزمن الموحش، أكثر من مشهد أطفال مستضعفين، لم يتجاوز أكبرهم العاشرة، يتراكضون بين السيارات في ساعاتٍ متأخرة من الليل. يتسولون عند الإشارات الضوئية، متسترين بخدعة بيع بضائع خفيفة لا حاجة لها، أو يهرعون إلى تنظيف زجاج السيارات، المتوقفة رغما عن إرادة سائقيها، مستعطفين الناس، عاملين على إثارة الشفقة بملابسهم الرثة وملامحهم البريئة. يفعلون ذلك، في أحيان كثيرة، مرغمين لصالح عصابات منظمة، تستأجر الصغار من ذويهم قساة القلوب، متبلّدي المشاعر، بلا ذمة أو ضمير، بحيث يحرمون أولادهم من دفء الفراش وأمان البيوت، ويرمون بهم، تحت ذريعة الحاجة، إلى الشوارع، عرضةً للبرد والحر والإهانة والجوع والاستغلال الجنسي. يتاجرون بأولادهم وبناتهم، في اعتداء سافر على إنسانيتهم، فتحقق تلك العصابات المجرمة الغاشمة أرباحا طائلة، جرّاء عذابات أولئك الصغار عاثري الحظ، المحرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية في مقابل فتاتٍ لا يغني عن طفولةٍ ضائعة، ابتذلها من هم مؤتمنون عليها. وعلى الرغم من قسوة الفكرة ولا إنسانيتها، قد يجد بعضهم مبرّرات ما لمثل هؤلاء، تحت عنوان الجوع كافر، قد يؤدي بصاحبه إلى التوحش وارتكاب أفظع الجرائم. 
ولكن أي مبرّرات منطقية، يمكن تسويقها لأولئك المترفين الجشعين من قاطني الفلل الفاخرة، تجار قنوات اليوتيوب، وهم يستخدمون أطفالهم، كما لو أنهم قردة في سيرك متجوّل، ينزعون عنهم أمانهم واستقرارهم النفسي، وعفويتهم وبراءتهم، مشهرين الكاميرات في وجوههم على مدار الساعة، محققين الأرباح الطائلة بسبب سيل الإعلانات التجارية التي تتخلل بث مقاطع الفيديوهات التي يتوهمونها طريفة، المعدّة لانتهاك خصوصية الصغار ومصادرة طفولتهم ولتجعلهم فرجةً مجانية للعموم.
النماذج على امتهان الأهل الطفولة أكثر من أن تُحصى، ولعل أكثرها غباء وفجاجةً الحكاية التي أثارت، أخيرا، ضجة كبرى في مصر والعالم العربي، عن "اليوتيوبر" المصري الأكثر شهرة، حسن وزوجته زينب، اللذين يعتاشان من خلال فضح أدق تفاصيل حياتهم الخاصة. وقد تجاوز عدد متابعيهم المليون، وهم الذين اعتدوا على طفولة صغيرتهم، في مقاطع فيديوهات يومية، حققت لهم ما يبنغي أن يشبع جشعهم. وفي مقطع الفيديو الذي أثار، أخيرا، ضجة كبرى، قررا إعداد مقلب ماكر بالصغيرة المسكينة ذات السنة والنصف، سعيا إلى الإثارة الرخيصة، حين غيرت الأم ملامح وجهها، وطلته باللون الأسود، وقامت بترهيب الصغيرة، فاشتد صراخها وسط سخرية والديها العبقريين وضحكاتهما، ما دفع أحد المتابعين إلى تقديم شكوى رسمية فور انتشار المقطع لمجلس الطفولة، متّهما الزوجين بإيذاء الطفلة وترويعها.
الإيجابي الذي يبعث على الارتياح أن المجلس القومي للأمومة والطفولة تقدّم ببلاغ رسمي، على الفور، إلى النيابة العامة التي استدعتهما تمهيدا لمحاكمتهما، وتطبيق العقوبة التي يستحقانها، سيما أن لديهما سوابق، حيث تم تسجيل شكوى بحقهما منذ عامين، وجرى توقيعهما على تعهد وكفالة بالتزامهما بعدم تكرار فعلة استغلال الطفلة من أجل التربّح، ما أدّى حينها إلى حفظ الشكوى. وهما يواجهان الآن خمس تهم خطيرة، منها تعريض طفلةٍ بريئةٍ لانتهاكاتٍ نفسيةٍ عنيفة، وهو ما يعد إساءةً لكرامة الطفل وحقوقه، وكذلك تهمة الاتجار بالبشر. تم توقيف الثنائي التلفزيوني، المهووس بالشهرة وتحصيل الأموال الطائلة، الجاهل غير المدرك أبعاد استهتاره. وفي سياق دفاعهما الركيك، ادّعيا أنهما فعلا ذلك، من أجل اللهو البريء، واختبار ذكاء الصغيرة، وأنهما لا يطمحان إلى أي تحقيق أرباح.
لعل في هذه الحكاية المؤسفة درسا بليغا لآخرين، وهم كثر، ممن يتاجرون بأطفالهم، سعيا إلى مكاسب ومشاهدات، غير مدركين الآثار النفسية والتشوهات التي ستحدث في تلك الأرواح الهشّة الغضة، جرّاء تصرّفات الأهل الجشعة المستغلة التي لا تقل إجراما ووحشيةً عن جرائم أهالي الصغار الذين يؤجرونهم لعصابات التسوّل الإجرامية المنظمة في ضمان لتدفق أموال سوداء، حصيلتها طفولة منهوبة، ومستقبل مظلم وأفق مسدود.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.