ضربة المقفي

ضربة المقفي

27 مارس 2022

(كمال بلاطة)

+ الخط -

سُمّيت كذلك لأنها الضربة التي يوجهها مشاركٌ في مشاجرة ضدّ الخصم، قبيل فضّ الشجار بلحظات، نتيجة تدخّل أصحاب المساعي الحميدة؛ أو لنيّةٍ مبيّتةٍ للهرب من الخصم الذي تميل كفة الغلبة لصالحه؛ فيشعر الطرف الهارب بضرورة توجيه لكمة طائشة قد تصيب وقد تخيب، لكنها صالحةٌ لترك ندبةٍ في وجه الخصم تحذّره دومًا من مغبة تكرار المشاجرة معه.

يشيع هذا المصطلح شعبيًّا في الأردن، سيّما في أوساط "الزعران" حيث تتعدّد المشاجرات والمشاحنات، ولا يبدو غريبًا عندما يُذكر على لسان أحد مفتولي العضلات، المليء جسده بالأوشام، فضربة المقفي هي إحدى الاستراتيجيات "الحربية" التي يجري استخدامها عند الضرورة؛ لإفقاد الخصم القوي لذّة الانتصار.

ما زلنا نتحدّث عن استراتيجيات "العالم السفلي"، لا عن "العالم العلوي" الذي "يأنف" من هذه الممارسات غير الأخلاقية، فهو عالم "شهم"، يحترم "الخصم"، ويعرف متى ينسحب بـ"شرف"، عندما تحين لحظة فضّ الاشتباك، وهو عين ما فعلته أجهزة السلطة الأردنية عندما أقرّ برلمانها قانون الأحزاب، و"التعديلات الدستورية"، ثم شرع بإكمال عقد الإصلاح السياسي، عبر مناقشة قانون الانتخابات الذي ينتظر أن يعبّد الدرب أمام الأحزاب الأردنية لنيل الحصة الأكبر في التمثيل النيابي، ومن ثم لتشكيل الحكومات البرلمانية.

هذا هو السيناريو الذي أعدّه "العالم العلوي" الأردني للشعب قبل أشهر، وتغنّى به بوصفه منعطفًا مهولاً في الحياة السياسية الأردنية، وهدية للشعب من نظامه الذي وعده بإشاعة الحريات، و"تحقيق الأمنيات"، غير أن ما حدث قبل أسبوع لا علاقة له بـ"ضربة المقفي"، عندما شنّت السلطات الخميس الماضي حملة اعتقالات، تزامنًا مع الذكرى السنوية لاعتصام 24 آذار 2011، الذي أعلن باكورة الانخراط الشعبي الأردني في موجة الربيع العربي التي سادت الشوارع العربية آنذاك.

في المحصّلة؛ شهد وسط العاصمة تشديداتٍ أمنية، في أعقاب دعوة "اللجنة التحضيرية للإنقاذ الوطني" إلى هذا الاعتصام عصر ذلك اليوم، بينما شملت حملة الاعتقالات حراكيين ونقابيين ونوابًا، في ما يبدو محاولة لقطع الطريق على محاولات إحياء الربيع الأردني.

ولو شئنا الدقة، لقلنا إن ما تُقدم عليه أجهزة الحكم الأردنية في الخفاء يغالط التوجه الرسمي المعلن، فكيف يستقيم التضييق على الحريات مع الوعد بإطلاقها عبر قوانين "إصلاحية" كما تزعم السلطة، وهو ما يحيل إلى المثل الشعبي المصري "أسمع كلامك أصدّقك، أشوف أفعالك أستعجب"، أم هو انسجام وتناغم في التناقض الحادّ بين الأقوال والأفعال الذي تتقنه أنظمة الحكم العربية، منذ لاءات الخرطوم حتى "نعامات" أبوظبي؟

غير مفهوم هذا التناقض إلا في حالة واحدة، إن سلّمنا بضربة المقفي التي حاولنا استبعادها أولًا، ويتعاظم هذا التسليم إذا عرفنا أن السلطات الأردنية اعتادت التعامل مع المعارضة على قاعدة "الخصم" دومًا، والدخول معه في شجارات كرّ وفرّ على مدار العلاقة المأزومة بين الطرفين، فهي إما أن تشتري المعارض بجزرة، أو تجلده بعصا الحصار والاعتقال والتضييق.

ولا نضيف جديدًا لو قلنا إن قوى الشدّ العكسي في الأردن متغلغلة في مفاصل السلطة، ولربما تعمل أحيانًا على عكس الرغبة العليا؛ كونها الأشدّ خسارة من قوانين الإصلاح والانفراج الديمقراطي، خشية أن تفتح الحرّيات أبواب المساءلة على مصراعيه، بما يعنيه ذلك من كشف ملفات فساد ضخمة، فهل كانت هذه الاعتقالات "ضربة المقفي" الأخيرة من لدن تلك القوى، بعد أن شعرت أن الغلبة ستكون للإصلاح والحراكيين والنقابيين والناشطين، فأرادت أن تترك "علامة" في جبين "الخصم" بأنها موجودةٌ على الدوام، وستعود عندما يعتقد الجميع أن الأمور قد استتبّت لصالح النهج الجديد؟

لا أميل إلى ذلك، بل أراهن أنها ضربةٌ ستتبعها ضربات، خصوصًا وقد سبقتها ضرباتٌ أيضًا، بل أزيد من ذلك، أستريب أيضًا بكل ما تزعمه السلطة عن الإصلاح وعن توجهاتها إليه؛ على الرغم من أنها الطرف الخاسر في هذه الشجارات، على المدى البعيد، ولن توقف ضرباتها "المقفيّة" مسار التاريخ، ولربما كان الأحرى أن تعلن السلطة صراحةً أنها لا تريد الإصلاح السياسي؛ لأن البرهان موجود خلف القضبان حاليًا، مهما زعمت عكس ذلك.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.