ضدّ ثقافة الخوف
(فاتح المدرس)
سُئل الروائيّ الأميركي ستيفن كينغ (1947)، ذات يوم، وهو المتَّهم بأنّه روائيّ الرعب، إن كان أدبُهُ ناتجاً عن ولع الأميركيّين بالخوف، فنسب هذا الولع إلى الغرب بشكل عامّ. وليته لم يغفل عن المجتمعات العربية. هل أصبح الخوفُ فكرةً "مُتَسَلِّطة" على جُلّ ما يُقال ويُكتَب ويُمَشْهَد؟ وهل تكون لهذا "الخوف" صلةٌ بأننا في "منزلةٍ بين المنزلتين"، بين انهيارٍ لا يكتمل وبِناءٍ لا يُنجَز؟
الحقّ أنّ الخوف توأمُ البشريّة منذ بداية الوعي واللغة. إنّه عدوُّنا الحميم. صديقُنا اللدود.عصانا التي نتحسّس بها الطريق ونطارد بها الخوف نفسه حين يزيد على الحاجة. إنّه صوتُ وعيِنا الشقيّ، كي لا نتوهّم أن كلّ شيء مُعطىً ومضمون، ومن ثمّ نُعربد وننسى أن نحبّ وننصف ونتواضع، وننسى أنّ علينا أن نعيش معاً كي نستطيع أن نعيش.
تصاعُد التعبير عن الخوف في مرحلة مُعيّنة راجعٌ، في جانبٍ منه، إلى ما تشهده تلك المرحلة من صعوبات اقتصاديّة واجتماعيّة وأمنيّة وانفلاتٍ قِيَمِي ومؤسّساتي. لكنّ الأمر ليس بهذه الميكانيكيّة. نحن منذ الكهوف نستعيدُ خوف البشريّة صغيرها من كبيرها وبعضها من بعضِها أو من الطبيعة. لذلك تراصّت المُدُنُ إلى حدّ الاختناق، وكأنّها خوف يسند خوفاً.
الخوف إِذَاً مسألتان: ميزان قُوى ومعرفة... تنطلق المسألتان من الإحساس بالخطر. أنت تخاف خطرَ الأقوى وخطَر المجهول. ما أن يعتدل ميزان القوى ويدخل المجهول دائرتك المعرفيّة حتى يتلاشى الخطر والخوف. لكنّ الخطر نوعان: متجسِّد ومُتخَيَّل. الأوّل يُداهمك من قُرب والثاني يُخيفك ليحثّك على الحيطة. من ثمّ يكون الخوفُ أكبر مُحفّزٍ للخيال وأكبر مدرسةٍ تُعلِّم التفكير والتخطيط. شرط ألا يكون خوفاً باثولوجيّاً يشلّ الجسد (والعقل) عن كلّ حركة. وهو ما تتمخّض عنه السياسة حين تعمل على تعميم الخوف وتُيسّر له الأسباب باعتباره أداتَها للحكم.
عند هذه النقطة المفصليّة يحتدم الصراع، بين سياسةٍ تحرص على تحويل الخوف إلى ثقافة، وثقافةٍ تسعى إلى تخليص السياسة من غوايةِ الحكم عن طريق الخوف. عند هذه النقطة، يتمّ الفصل بين ذهنيّة الاستبداد التي يكون فيها الإنسان ضحيّة الخوف، وذهنيّة التحرّر التي تخرج بالإنسان من موقع إنكار الخوف إلى موقع مُواجهَتِه.
في بلادٍ كثيرة، تهجس السياسة والثقافة بمخاوف، أقلُّها من الحاضر (الحروب، المجاعات، الجوائح... إلخ)، وأكثرُها من المستقبل المجهول: الكارثة الإيكولوجيّة المرتقبة، تلوّث الهواء، نفاد الماء، ذوبان الكتلة الجليديّة، انفجارات الشمس، حركة الأجرام السماويّة التي قد ترتطم بالأرض، الذكاء الاصطناعي... إلخ. أمّا في معظم البلاد العربيّة، وفي سائر بلاد العالم، فقد أُسدِل ستار بين الناس وهذه المسائل الكونيّة والأنطولوجيّة، ولم يعد من وقتٍ للخوف من المستقبل إلاّ بالنظر إلى ما يتهدّده من الماضي.
في هذه المرحلة العالميّة الصعبة، لم يعد المستقبل (المجهول) وحدَه مصدر خوف الجميع، بل أصبح الماضي مُخيفاً من جديد إلى حدٍّ غير مسبوق. السيوف المسلولة والرصاص المُفرقع والذبح ليست انحرافاً قادماً من المستقبل، بل هي حلقةٌ من ماضٍ ذهب الظنّ بكثيرين إلى أنّها ولّت إلى غير رجعة. لكنّ هذا الماضي خرج من تابوته ليواجه الحاضر مثل أولئك الموتى الأحياء في أفلام "الزومبي". هكذا أصبح المعلوم مخيفاً أيضاً، أصبح الخوف ناتجاً عن المعرفة!
المُخيف أكثر في هذه المسألة أن ينبري بعضُهم لتأثيم هذا الخوف وادّعاء أن لا داعي لهُ وأنّه جبن، وأنّ الجميع مُطالَبُون بتحفيز الهمم... إلخ.. وهذه في أفضل الأحوال جدانوفيّة جديدة لا تجرؤ على البوح باسمها، وانخراط في الإنكار الذي لا ينتج عنه إلاّ الغوص في الباثولوجيا حدّ الهلاك. بينما المطلوب أن ننظر إلى هذا الخوف في عينيه، وجهاً لوجه، كي نفهم أسبابه ونعرف كيف نُقاومه على طريقة تلك الفنون القِتاليّة التي تعتمد على قُوّة المُنافس للانتصار عليه.
كيف يمكن أن نشعر بخطورة شيءٍ من دون أن نخافه؟ كيف يمكن أن نخافه من دون أن نتصدّى لمقاومته؟ كيف يمكن أن نُقاوم شيئاً إذا لم نشعر بخطورته، أي بأنّه مُخيف؟ لا خوف من الخوف حين يكون مُحفّزاً على الحيطة والعمل، فهو عندئذ ناقوس الشجاعة. أمّا حين يتحوّل الخوف إلى ثقافة، فهو يكفّ عن كونه خوفاً ليُصبح جُبناً لا أكثر.