صِدامُ الآلات

16 مارس 2025
+ الخط -

في إحدى محاورات أفلاطون، عرَضَ تُوث على الفرعون اختراعَ الكتابة، فعبّر الفرعونُ عن مخاوفِهِ من أن يكون هذا الاختراعُ وبالاً على الذاكرة. أثبتَت التجربةُ فيما بعد أنّ الكتابة خلّصت الذاكرةَ من حدود المكان والزمان. لكنّ الخوفَ من الجديد والمجهولِ متأصّلٌ في البشريّة، تأصُّلَ البحث عنهما. نرى ذلك في ما يحيط اليوم بالذكاء الاصطناعيّ. أقلُّهُ الخوف من عسكرتِهِ وتوظيفِه في خدمةِ حروبِ التوسّع والمياهِ والمعادن النادرة، وصولاً إلى سيطرتِهِ على البشر. خصوصاً مع تطوُّرهِ بسرعة وجذريّةٍ غير مسبوقتين، لن يلبثا أن يتيحا للحاسوب الشخصي لأيّ مستخدم، أن يصبح أذكى من المعدّل العامّ لذكاء أيِّ أينشتاين في العالم، بملايين المرّات، وقد يتحقّق بهما ما توقّعَهُ أدب الخيال العلميّ وسينماه: عالَم لا بشريّ تحكمُه الآلة؟!

تصدّى لهذه المخاوف علماء وفلاسفة، كذلك تصدّى لها جيشٌ من نجوم "السوشيال ميديا"، تَوغّل بعضُهم في الديستوبيا، بينما بات بعضُهم مُحترِفَ تفاؤُلٍ مدفوع الأجر، شبيه بمدرّب تنميةٍ ذاتيّةٍ يطمئن زبائنهِ على المستقبل! من بين هؤلاء الكاتبُ الفرنسيّ رافائيل إنثوفن (1975) مؤلّف "العقل الاصطناعيّ" (لوبسيرفاتوار. باريس 2024).

يؤكّد إنثوفن (1975) في هذا العمل لقرّائه تفوُّقَ العقل البشريّ على الذكاء الاصطناعيّ. ... لماذا؟ لأنّه غير قادر على التفلسف. وما دليله على ذلك؟ يقول لنا الكاتب هنا إنّ التفلسف، في نظره، تحويل السؤال إلى مسألة. ويتباهى بأنّه خاض اختباراً فلسفيّاً، في مواجهةٍ مع برنامج تشات جي بي تي، في يونيو/ تموز 2024، موضوعُه: "هل السعادة مسألةٌ عقليّة؟"، وأنّه انتصر بتفوّقٍ في هذا الاختبار، بشهادة لجنة التقييم التي منحت "الآلة" درجةَ 11 على 20، بينما نالَ هو، "الكرونيكور – المتفلسف - البشريّ"، درجةَ 20 على 20! تصوّر! الدرجة كاملة! وفي الفلسفة!

والحقّ أنّ قضيّةَ الكتاب جوهريّة، لكنّ معالجتها لا ترقى إلى المأمول. ثمّة عبثيّة واضحة في السؤال: هل الذكاء الاصطناعي قادرٌ على الفلسفة؟ الأجدر تعميق البحث عن إمكانات إعادة تعريف التفكير الفلسفي في عصرٍ أخذت فيه الآلات بناصية اللغة، وأصبحت قادرة على تحليل المفاهيم والتفاعل مع لطائفها. وكان في وسع الكاتب أن يناقش إمكانية ظهور نوع جديد من الفلسفة الهجينة التي تجمع بين القدرات الحسابية للذكاء الاصطناعي والعمق التأمليّ للإنسان، لكنه أصرّ على رسم حدودٍ غير مبرّرة بين الاثنين.

ليس كلُّ تفكيرٍ تفلسفاً. ولا هو فعلٌ ذهنيٌّ خالص. إنّه فعلٌ وانفعالٌ غير منفصل عن أحاسيس ذات صلة بالجسد، أي باللغة، مثل الرغبة والشبق. ولعلّ ثمّة صلة مَا بين التفكير وتحديد سبينوزا للحب، باعتباره فرحاً مرتبطاً بفكرةِ سببٍ خارجيّ. وطالما لم تثبُت استحالةُ الربط بين الذكاء الاصطناعيّ والجسد، فإنّ الربط بين الذكاء الاصطناعي والتفكير يظلّ ضمن دائرة الممكن. وهو أمرٌ غير مستبعد مع قرب انتشار "السيبرغ"، ذلك الكائن البشريّ المعزّز بالآلة، على ألاَّ يكون العكس: آلة معزّزة ببقايا البشر.

في انتظار ذلك، يظلّ القلق الوجودي مشروعاً، إذا هو استطاع أن يفلسف نفسه. لكن بأيّ عقل تفكّر البشريّة هذه الأيّام، في خضمّ خوفها من سيطرة الذكاء الاصطناعيّ على العقل البشريّ؟ ألا يأتي هذا الخوف بعد فوات الأوان؟ خصوصاً بعد أن ثبت تدخّله في الحروب الأخيرة، في أوكرانيا وفي غزّة تحديداً. هل كانت البشريّة تنجب إنسانَ الدمار الشامل الذي أنجبته، لو لم يكن الإنسانُ قد ضمر وتراجع منذ عقود طويلة، وحلّت محلّه آلة حاسبةٍ متوحّشة، ولا يمنعها شيءٌ من ممارسة الكانيباليّة بدم بارد، ولا تملك قطرة واحدة من ماء الوجه لتلافي التصحّر القيمي الشامل؟

أليس هذا العقل "البشريّ" الذي أوصلنا إلى هذا الدمار البيئي والأخلاقي، عقلاً اصطناعيّاً؟ هل للبشر السائدون اليوم عقول (وقلوب)، أم أنّ لديهم آلات حاسبة، كلّ شيء في نظرها صفقات، ولا يهمّها إلّا الأرباح، على حساب دمار الشجر والحجر والبشر؟ هل يفكّر البشر أم يتفاعلون، مثل الآلات، مع الخوارزميات والمحفّزات الميكانيكيّة؟ هل ثمّة ما يبرهن على أنّ العقل السائد في كلّ هذا السقوط الشامل، يمتلك مقوّمات التفكير؟ هل الصراع السائد في مفتتح هذا القرن الجديد صراع بين البشر والآلة، بين العقل البشريّ والذكاء الاصطناعيّ، أم هو صدام آلات، يأتي تتويجاً لصدام الحضارات، ويفسح المجال لصراع بين آلتين: الآلة البشريّة والبشر الآليّ؟

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.