صياح في مصر.. وسياسة حمائية ولا مقوّمات حمائية

صياح في مصر.. وسياسة حمائية ولا مقوّمات حمائية

22 ابريل 2022
+ الخط -

طالعتنا الصحافة المصرية الأسبوع الماضي بقرار الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات المصرية، وقف استيراد منتجات أكثر من 800 علامة تجارية، في أمرٍ يراه كثيرون انعكاسًا لأزمة العملة الصعبة في البلاد، وتردّ عليه الهيئة وبعض الشركات المشمولة بالقرار، باعتباره إجراءً مؤقتا إلى حين توفيق الأوضاع وفقا لمنظومة الاستيراد الجديدة، الأمر الذي أثار الجدل والقلق في السوق المصرية، وبين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، حدّ استخدامه في السخرية والكوميكس أحيانا.

لا يعرف أحد ما إذا كان القرار يأتي في ظل سياسة حمائية مهمة ومطلوبة، كما يروّج الإعلام، أو أنه مجرّد إجراء مؤقت، كما تحرص الحكومة وهيئة الرقابة على الصادرات والواردات وبعض الشركات توضيحه، لكنه يبقى موضوعا مهما للحديث عنه بجدّية.

لا يخلو موضوع قيود الاستيراد هذا من بعض الصياح الخاص بمجموعاتٍ تعتقد هي وأهاليها أنهم طبقة وسطى عليا أو طبقة عليا، وبعض الفقراء الذين تصنع فيهم الدراما والسينما الرغبة في التقليد الأعمى و"الفشخرة الكدابة" (بالتعبير المصري الدارج)، بينما هم وأهاليهم أصلا يحتاجون لتحويشة قد تصل إلى سنة من أجل الذهاب إلى بعض المحال الخاصة بالماركات الموقوف استيرادها بغرض شراء طقم أو حتى فقط طرحة أو شنطة يد وبنطلون أو ليصبحوا ممن يقومون بعمل "شوفينج" بالتعبير المصري الدارج، المعبّر عن تدهور القدرة الشرائية لجموع المصريين، فقط لكي يكتبوا أنهم ذهبوا إلى هذا المكان، ويثبتوا حضورا فيه عبر بعض الصور على "السوشيال ميديا"، في عصر مركزية الفرد الزائف حول ذاته وعالمه الافتراضي، منعزلا عن ظروف أهله ومجتمعه ودخله وأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية.

من الممكن أن يتفهّم المرء ذلك الصياح الخاص ببعض المجموعات المغلقة للمورّدين ومستخلصي الجمارك، لأنّ هذا القرار يمسّ أكل عيشهم مباشرة، ويطيل دورات رأس مالهم الباحث عن الربح السريع، ولو على حساب التطور الاقتصادي المصري، بغض النظر عن أنّ موضوع الواردات تحكمُه لوبيات وكارتيلات، قد تكون أسوأ من مهرّبي المخدّرات.

دول لا يتعب مزارعوها ربع تعب المصريين، بينما صادراتها الزراعية أكبر من جملة صادرات مصر

ليس واضحا إذا ما كانت هذه سياسات حمائية أم مجرّد سوء فهم لقوانين منظومة القيد الخاصة بالمصانع المصدّرة لمصر، خصوصا أنّ أغلب المنتجات الموقوفة إما لدينا بدائل محلية معقولة لها أو أنّ العلامات التجارية المنتجة له لديها مصانع في مصر، وهذا بخلاف أنّ مصر تستورد آلاف السلع غير تامة الصنع ومدخلات الإنتاج التي تستحوذ على قرابة 70% أو 60% من قيمة الواردات، الأمر الذي يستدعي صياح مصنّعين محليين عديدين واستياءهم أيضا، ويشير إلى أزمة قائمة منذ شهور، واضحة جدا في الصفحات الخاصة بالمستوردين ومخلصي الجمارك ومجموعاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك في أسعار السلع في السوق.

لا يخفى على أيّ متابع للاقتصاد العالمي أنّ العالم كله يسير في موجة سياسات حمائية منذ فترة الرئيس الأميركي السابق ترامب، وربما قبله بسنوات، جرّاء معاناة أسواق عديدة من سياسات الإغراق الناجمة عن التحرير الاقتصادي غير المحسوب، حتى أنّ الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين كان لها من التداعيات، ربما أكبر ما للحرب الروسية الأوكرانية الجارية حاليا على الاقتصاد العالمي.

ما يثير الشفقة أنّ بعضهم لا يدرك حقيقة الوضع الحالي الذي تشهد فيه مصر أزمة غذاء حادّة قادمة من الخارج، لكن جذورها تنمو في الداخل منذ عقود عبر سياسات اقتصادية فاشلة، اعتمدت على قطاعات خدمية مرتبطة بالعالم الخارجي أكثر، وسياسات انفتاح حق للباحثين والمفكرين أن يسمّوها سياسات "السداح مداح"، فنحن نعيش نتائجها الآن متمثلة في زراعة أكثر تدهورا وأقل قدرة على إشباع حاجات السوق المحلي، بينما هي تتصدّر أرقام الصادرات، إذ ارتبطت عمليات تحديثها الفاشلة بسياسات الإنتاج من أجل التصدير فيما تتزايد واردات البلاد من السلع الاستراتيجية، مثل الحبوب والزيوت. أيضا، إننا إزاء صناعات هشّة، ولا تزال أنصبتها في الصادرات أو إشباع حاجات السوق المحلي الكبير ضعيفة، وتجعل مصر على هامش الأسواق العالمية التي حاولت الاندماج فيها بقوة، فاستوردت الهشاشة والتضخّم بدلا من تعزيز المنافسة، ولا تزال تستورد معظم مدخلات الإنتاج بكلفةٍ عاليةٍ جدا.

من هنا يأتي شعور الإشفاق على هؤلاء الذين يدركون أو لا يدركون وضع الاقتصاد المصري القابع في هامش العالم المضطرب الذي يمرّ أكبر موردي الحبوب فيه بحربٍ طاحنة، سلاحها الرئيسي الاقتصاد، وتبعاتها تطاول العالم برمته، وغير معلومةٍ نهايتها وتداعياتها، ثم يحزن هؤلاء على وقف استيراد بعض السلع، فيما بلدنا غير قادر أصلا على توفير الدولار والعملات الصعبة لكي يشتري به القمح والزيت والفول والعدس، كي يبقي المواطنين على قيد الحياة.

مصر تشهد أزمة غذاء حادّة قادمة من الخارج، لكن جذورها تنمو في الداخل منذ عقود عبر سياسات اقتصادية فاشلة

هناك مصدر آخر للصياح النيوليبرالي قادم من بقايا جمعية جيل المستقبل ورجال أعمال نظام حسني مبارك ومراكز للدراسات الاقتصادية، وهي تقريبا يعمل أفرادها كعبيد لدى شبكة الرساميل المحلية الإقليمية والدولية، وتدافع عن إبقاء المصريين عبيدا لدى هذه الرساميل، وتلعب على نغمة "إلحقونا سيقفل علينا البلد مثل الستينات وسيجعلنا نشرب ترابا بدلا من شاي ليبتون وصافولا بدلا من بيبسي"، وهذا واضحٌ في صياح بعض رجال الأعمال وبعض الصفحات.

والحقيقة أنه، بسبب هؤلاء وأعمالهم السوداء، غدا البلد غير قادر على التصرّف مثل أيام الستينات ما قبل حرب أكتوبر وأيام حرب الاستنزاف. حيث كانت الصناعات الوطنية وسياسات إحلال الواردات قد بدأت تؤتي ثمارها، بينما الآن، أغلب ما كان ينتج في مصر حينها، إما أنّ مصانعه بيعت كأراض فضاء للاستثمار العقاري، أو بيعت لمستثمرين أجانب وتعمل من أجل التصدير فقط، ولا قيود عليها في تحويل رساميلها إلى الخارج وتسريب القيمة أو قيود في توفير احتياجات السوق المحلي. فإذا كان ثمّة نية لإغلاق البلد، وإنْ يشكّ كاتب هذه المقالة في رغبة النظام وقدرته على ذلك، فإننا بصدد عودةٍ إلى ما قبل عهد محمد علي.

أما المصريون المنبهرون بهذه القرارات، فسلوكهم وسلوك الحكومة غير مفهوم، ففي وقتٍ يلغي ترخيص الواردات من شركة المراعي، فالشركة والشركات الزراعية الخليجية تتوّسع أصلا في الاستحواذ على السوق المصري، وفي وقتٍ تدمّر فيه سياسات الحكومة شركة مثل جهينة (أكبر منتج للألبان في مصر) وتعتقل صاحبها وابنه من دون قضية حقيقية، مع أنه كان يتبرّع لصندوق "تحيا مصر". كما أنّ الحكومة نفسها تسير بسرعة غير معهودة في بيع وتسييل كل أصل استراتيجي ناجح، بدعوى توفير التمويل بدلا من استغلاله وتشغيله بالطاقة الكاملة لتلبية الطلب المحلي أو للتصدير، لكي تستطيع فرض سياسة حمائية، إذا كان مضطرّا لذلك تحت وطأة الظروف الدولية وفقدان مصادر التمويل الدولي.

تسير الحكومة نفسها بسرعة غير معهودة في بيع وتسييل كل أصل استراتيجي ناجح

في الحقيقة أيضا، وقف استيراد هذه المنتجات، على أهميته لأية سياسة حمائية حقيقية للمنتجات المحلية البديلة، ليس هو القادر على حلحلة أزمة التمويل الدولي، ولن تخفض فاتورة الواردات ولا تحلّ المعضلة التمويلية التي نعيشها بالشكل الذي يجري ترويجه، فإذا كان النظام يريد حقا خفض هذه الفاتورة وتقليل العجز التجاري وتوفير العملات الأجنبية، عليه أن يقول لنا: ماذا فعل في الصناعة المحلية وهل خفّض استيراد السلع الوسيطة وعزّز الصناعات التحويلية؟ وماذا فعل في الزراعة غير الموجهة للتصدير؟ هل هناك دعم حقيقي لهذه الزراعات؟ هل يستطيع أن يتخذ قرارا باستلام القمح بالسعر العالمي؟

كان المسؤولون والرئيس فرحين جدا بوصول الصادرات إلى رقم 31 مليار دولار، ويحدّثنا الإعلام عن أرقام قياسية، في حين أنّ دعم الصادرات هو الذي كان قد وصل إلى رقم قياسي. ولكن المرء يعتصر ألما، عندما يرى دولا لا يتعب مزارعوها ربع تعب المصريين، بينما صادراتها الزراعية أكبر من جملة صادرات مصر التي ينحاز نظامها للمستثمرين الأجانب، ويعدّل قوانين الاستثمار كل عام لتتوافق مع أهوائهم وتخفّض ضرائبهم وتعظّم أرباحهم. ومع ذلك لم تحدث أيّة طفرةٍ في الصادرات ولا صافي الاستثمار، ويفرح النظام بتدفق الأموال الساخنة، ويسميها عبثا استثمارا، وعندما تخرج فجأة وتحدُث أزمة في العملة والاقتصاد، يطالب المصريين بتحمّل نتيجة هذه السياسات الكارثية!