صورة ترامب الأخيرة

صورة ترامب الأخيرة

15 ديسمبر 2020
+ الخط -

.. وإذن، بغض الطرف عن محاولات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وفريقه اليائسة، لوقف عجلة التاريخ ومنع تنصيب الرئيس المنتخب، جو بايدن، في 20 يناير/ كانون الثاني، فالحقيقة الثابتة أن ترامب سيغادر في ذلك التاريخ إلى بيته الجديد في فلوريدا، ليلعب الغولف، ويستعيد لحظاته السعيدة في البيت الأبيض. وسيذكر التاريخ ترامب واحداً من أكثر الرؤساء الأميركيين استهتاراً بمنصب الرئاسة، ويصوّره شخصاً قدّم مصالحه الشخصية على مصلحة الوظيفة والأمة والعالم. وسيُذكَر ترامب دوماً باعتباره الرئيس الذي شجّع العنصرية والتطرّف اليميني، ومنعَ مواطني سبع دول من القدوم إلى الولايات المتحدة فقط لأنهم مسلمون، وأنه أمضى كلّ يوم من أيام حكمه يحاول تقويض التأمين الصحي لملايين الأميركيين الذين لا تأمين لهم، وحارب المناخ بكل قوته إكراماً لشركات الطاقة الأحفورية، وصادق طغاة العالم، وأسهم في دفع موجة من القادة الشعبويين على غراره في كلّ العالم.

سيذكر التاريخ ترامب واحداً من أكثر الرؤساء الأميركيين استهتاراً بمنصب الرئاسة، ويصوّره شخصاً قدّم مصالحه الشخصية على مصلحة الوظيفة والأمة والعالم

ولكن الأميركيين سيتذكرون أيضاً، وطويلاً جداً، صورة ترامب، وهو يغادر البيت الأبيض بدون تكريم أو كرامة، وهو متشبّث بالحكم بدون أي جه حق، فإن تخلّف عن اصطحاب خلفه إلى المحكمة العليا لحضور مراسم التنصيب، فسيكون أول رئيس يفعل ذلك منذ عام 1837. ولن يستطيع العالم إلا أن يقارن الصورة الكاريكاتورية لترامب وهو يغادر الحكم بصورة آل غور نائب الرئيس الأميركي الأسبق ومنافس جورج دبليو بوش في انتخابات 2000. لقد مرّت الانتخابات في تلك السنة بما يشبه انتخابات 2020، حين أُعلِن فوز آل غور، قبل أن يطعن بوش بالنتيجة، وتحكمَ المحكمة العليا لمصلحته. كان على الكونغرس أن يعلن النتيجة الرسمية بعد تصويت المجمع الانتخابي وحكْم المحكمة العليا. وكان آل غور، بصفته نائب الرئيس كلينتون، رئيس الجلسة المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ. وحين ثار بعض النواب الديمقراطيين على قرار المحكمة إعطاء البيت الأبيض لبوش، على الرغم من أنه حصل على أصواتٍ أقلّ من آل غور، استخدم الأخير مطرقته عدّة مرّات لإسكات أنصاره، قبل أن يعلن النتيجة لنفسه. وعادة ما يكون تصديق الكونغرس على تصويت الهيئة الانتخابية سريعاً وروتينياً. ولكن لم يكن هناك شيء عادي في انتخابات 2000 التي أدّت إلى أداء السيد بوش اليمين الدستورية، باعتباره أول رئيس منذ بنيامين هاريسون في عام 1888 يفوز بالهيئة الانتخابية، لكنه يخسر التصويت الشعبي. ولمدة 20 دقيقة تقريباً، حاول عشرات الأعضاء من الديمقراطيين، من دون جدوى، منع فرز الأصوات الانتخابية الخمسة والعشرين في فلوريدا، احتجاجاً على حرمان الناخبين السود حق التصويت. كانت الأصوات الانتخابية المتنازع عليها في فلوريدا حاسمة في فوز بوش بعد معركة قانونية وسياسية طويلة عقب انتخاباتٍ غير حاسمة. ثمّ تلا آل غور الأرقام التي أظهرت هزيمته في الهيئة الانتخابية، حيث حصل منافسه على 271 مقابل 266، وقال إن الأصوات "ستعتبر إعلاناً كافياً" لانتخاب السيد بوش ونائبه ديك تشيني، ثمّ صاح بصوت ثابت: "فليبارك الله رئيسنا الجديد ونائب الرئيس الجديد، وليبارك الله الولايات المتحدة الأميركية". وشارك في تنصيب خلفه بعد ذلك بأيام، قبل أن يتقاعد في بيته. تقابل هذه الصورة صور ترامب ونائبه مايك بنس والناطقة باسمه كيلي مكناني ومحاميه رودي جولياني، وهم يطلقون الأكاذيب والاتهامات التي لا يساندها أي دليل، ويبذلون كلّ جهد لإلغاء ملايين الأصوات الشرعية، من أجل إبقاء رجل عنصري موتور في البيت الأبيض.

سيتذكر الأميركيون، وطويلاً جداً، صورة ترامب، وهو يغادر البيت الأبيض بدون تكريم أو كرامة، وهو متشبّث بالحكم بدون أي جه حق

لقد رفض كل قاضٍ أميركي، بلا استثناء، قبول دعاوى ترامب وفريقه، ومعظم هؤلاء القضاة محافظون، عيّنهم أساساً رؤساء جمهوريون. وفي آخر مسعى في هذا المجال، رفضت المحكمة العليا، المؤلفة من ستة قضاة محافظين وثلاثة ليبراليين فقط، الدعوى القضائية التي أقامتها ولاية تكساس لإلغاء نتائج انتخابات الرئاسة في أربع ولايات، خسرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام بايدن، في إطار سعيها إلى إلغاء الآثار المترتبة عن نتيجة الانتخابات. ويعطينا هذا الموقف من القضاة بعض الأمل في أن المؤسّسة الديمقراطية والتقاليد الديمقراطية لا تزال قادرة على الصمود في الأزمات الكبرى. وقد صوّت القضاة الثلاثة الذين عيّنهم ترامب نفسه في المحكمة العليا ضدّه، ما يعني أن الأمل لم يُفقد بعد بتصحيح الديمقراطية لنفسها.
في المقلب الآخر، لا يمكن أن ننسى أن 106 نواب جمهوريين و17 ولاية يقودها جمهوريون قد استمرّوا حتى اللحظة الأخيرة مصمّمين على قلب نتائج الانتخابات، وحرمان ملايين الناخبين حقّهم في التصويت. لا يخجل هؤلاء السياسيون من تحويل بلدهم إلى جمهورية موز أخرى، أو إلى بلد من العالم الثالث، حيث ينجح الزعيم فيها دوماً بالنسبة التي يريد. ولا يختلف هؤلاء النوّاب عن النوّاب السوريين الذيم يهتفون في مجلس الشعب السوري "بالروح، بالدم، نفديك يا بشار". ولا يختلفون عن ذلك النائب الذي هتف تحت القبة: "قلتها في حماة واليوم أن الوطن العربي قليل عليك وأنت لازم تقود العالم يا سيادة الرئيس".

رفض كل قاضٍ أميركي، بلا استثناء، قبول دعاوى ترامب وفريقه، ومعظم هؤلاء القضاة محافظون، عيّنهم أساساً رؤساء جمهوريون

إنها الشعبوية في أسوأ أشكالها وأكثرها انحطاطاً. لا يوجد تعريف للشعبوية يصف بالتفصيل جميع الشعبويين. ذلك لأن الشعبوية أيديولوجية هشّة، تركّز فقط على جزءٍ صغيرٍ جداً من الأجندة السياسية"، من دون أن تتمتّع بنظرة شاملة لكيفية تنظيم السياسة والاقتصاد والمجتمع ككل، بل تدعو ببساطة إلى طرد المؤسسة السياسية باعتبارها "نخبوية"، ولكنها لا تحدّد ما الذي تريد أن تحل محلها. ولذلك تراها تقترن عادة بأيديولوجيات يسارية أو يمينية، مثل الاشتراكية أو القومية.
يقسّم الشعبويون المجتمع إلى مجموعتين متجانستين ومتعاديتين: الشعب الطاهر من جهة، والنخبة الفاسدة من جهة أخرى. وبينما تقوم الديمقراطية على التعدّدية السياسية، وتأخذ بالاعتبار وجود مجموعات مختلفة لها مصالح وقيم مختلفة، وجميعها شرعية، تجد الشعبوية، على النقيض من ذلك، ترفض التعدّدية ويتعاملون مع "الشعب"، باعتباره كلّاً موحداً، بغض الطرف عمّا يوحده.
رأينا ذلك في شعبوية جمال عبد الناصر والبعثيين في سورية والعراق، ورأيناه قبل ذلك في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. ثمّ رأيناها أخيراً في الولايات المتحدة في حكم الرئيس ترامب، الذي نجح في تقسيم الأميركيين إلى فئتين: نحن (الشعب) وهم (النخبة التي تريد سحب الأسلحة من الأفراد ودعم حق المرأة في الإجهاض وحماية المناخ وسيادة القانون وتأمين الرعاية الصحية والعليم للجميع مجاناً). وينظر الشعبويون إلى مهمتهم على أنها "أخلاقية في الأساس". إن "التمييز بين النخبة والشعب لا يعتمد على مقدار الأموال التي لديك أو حتى نوع المنصب الذي لديك. إنها تستند إلى قيمك.
ونظراً إلى تأطيرهم الأخلاقي، يستنتج الشعبويون أنهم وحدهم يمثلون "الشعب". قد لا يفوزون بنسبة 100% من الأصوات، لكنهم يطالبون بنسبة 100% من دعم "الأشخاص الطيبين" الذين يعملون بجد، واستغلتهم المؤسسة. ولكن الحال أن قيادة الشعبوية غالباً ما تكون انتهازية، وهي تستخدم المشاعر الدينية والاجتماعية لبعض المواطنين والتطرّف والعنصرية عند بعضهم الآخر من أجل تقديم مصالحها الشخصية الضيّقة. وفي معظم الأحوال، تغلق المشاعر الهوجاء والتعصّب الديني عيون هؤلاء عن رؤية الحقيقة. كما أغلقت عيون آخرين في أربعة أصقاع المعمورة.
وجماع القول أن الديمقراطية تخلّصت مؤقتاً من محاولة جديدة للاغتيال، ولا ندري متى تكون المحاولة المقبلة.

8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح