صورة بألف كلمة وكلمة

صورة بألف كلمة وكلمة

12 أكتوبر 2021

فلسطينيون في غزة يتزاحمون للحصول على بطاقة تاجر (7/10/2021/Getty)

+ الخط -

من بين عددٍ لا حصر له من الصور المتواترة يومياً على مختلف وسائل الإعلام، تداول نشطاء فلسطينيون على وسائل التواصل، في الأسبوع الماضي، صورةً آتية من قطاع غزة، لحشودٍ من الرجال المتزاحمين على أبواب غرف التجارة المنتشرة في مدن القطاع، إذ قدّر رئيس اتحاد الغرف التجارية هناك أعدادهم الإجمالية بنحو 250 ألف مواطن، وذلك للحصول على بطاقة تاجر، لأمر بدا غامضاً في الوهلة الأولى، ومحلّ استغراب خارج القطاع، خصوصا لمن يعرف واقع الحال الاقتصادي والتجاري المزري في تلك الرقعة المحاصرة حصاراً خانقاً من أربع جهات الأرض، على مدى عقد ونصف العقد.
على الفور، تولّى النشطاء شرح (وتعليل) سبب هذا التزاحم الشديد للحصول على بطاقة تاجر، وعلّق بعض منهم على المشهد الغريب بألمٍ وحسرةٍ يخالطهما الغضب، موضحين أن هؤلاء الشباب الغزيين هم مجرّد عمّال عاطلين من العمل، تناهى إلى أسماعهم أن سلطات الاحتلال ستوفر 2400 فرصة عمل مؤقتة، داخل الخط الأخضر، شرط أن يكون المتقدّمون لها، بين شروط أخرى، يحملون بطاقات تجار، كون حامل هذه البطاقة غير متمتع، عكس عامل المياومة، بالحقوق العمّالية المنصوص عليها في لوائح الهستدروت (اتحاد نقابات العمّال الإسرائيلية)، بما في ذلك حق الحد الأدنى للأجور والتعويضات وغيرها.
وبالعودة إلى الصورة التي تعادل ألف كلمة وأزيد، وتشرح الوضع على نحوٍ أبلغ من كل قولٍ يقال، يكتشف المرء المتابع من خارج ذلك الشريط الساحلي المزدحم بالناس المحرومين من أبسط الحقوق الآدمية، حقيقة أن الأوضاع المعيشية لنحو مليوني إنسان أسوأ بكثير مما كانت تتراءى له من قبل، وأن خلف هذه الصورة الناطقة بلسان عربي فصيح شواهد صارخة على واقع حالٍ لا يُطاق، ومصاعب حياتية أثقل من قدرة البشر على التحمّل، وأشد وطأةً من الحرب، تغطيها غلالة كثيفة من الادّعاءات بالمضاء الذاتي والنصر الرباني ووعد الآخرة، ناهيك عن تقاليد المكابرة والإنكار، إلى الحد الذي يجوز فيه القول، وفق ما أبانته هذه الصورة الكاشفة، إن قطاع غزة المنهك لم يعد في الواقع مكاناً صالحاً للحياة.
يحدُث كل هذا الذي يحدُث في غزة على مرمى بصر وسمع كل الأطراف المتواطئة على إفقار الغزّيين كل هذا الإفقار، وسط صمت مريب على إدامة هذا الحال البائس إلى ما شاء الله، وكأن هذه هي أقدار غزّة العصية على الانكسار، إن لم نقل إن أمر معاقبتها بات مقبولاً على ضمائر كل المخاطَبين بكل هذا العار والشنار، بما في ذلك السلطة الوطنية صاحبة الولاية على رعاياها، وسلطة الأمر الواقع، التي تتنفس تحت الماء وتطارد خيط دخان، وتواصل، في الوقت ذاته، التعلّق بأهداب حكمٍ لا مستقبل له، وحدّث ولا حرج عن التسامح الدولي مع سلطات احتلالٍ غاشم، يُمعن في عجرفته وخرقه الفظّ حقوق الإنسان.
ولعلّ ما هو أشد بؤساً من كلّ مظاهر البؤس المستوطن في غزة على مدار الأعوام الطوال، وأفظع من كل ما يتجلّى لنا، من خلال أرقام وكالات الأمم المتحدة الخاصة بمعدّلات الفقر المدقع والبطالة والحرمان، هو هذا الاستنزاف للروح المعنوية لدى عامّة الناس، وتكفيرهم بالصمود والمقاومة والتحرير، هو هذا العمل المنهجي الحثيث لكسر الروح الوطنية، وإذكاء نزعة الخلاص الفردي، فضلاً عن تبديد الأمل وفقدان الرهان، الأمر الذي قد يفضى إلى تبدّلات عميقة في المزاج العام، وإلى إعادة بناء سلّم الأولويات لدى قطاع الشباب اليائس من إمكانية حدوث تغيرٍ ذي بال في المجال العام.
وقد تكون مجموعة الصور المبثوثة من غزّة، عن تدفق نحو ربع مليون مواطن إلى غرف التجارة، سعياً وراء فرص عمل محدودة ومؤقتة، في المزارع وورش البناء في المستوطنات لدى العدو (أحسب أنهم يشكلون كامل عدد الشباب الذكور) خير دليلٍ عما صار يعتمل في صدور هذا الجيل المتروك لأقداره المجهولة، وعمّا وصلت إليه الكتلة السكانية الحرجة من إحباط، يُفضي، بالضرورة الموضوعية، إلى انقلاب في المفاهيم، وسقوطٍ للمحرّمات، وخروج سافر على الثوابت، وذلك كله للخلاص من الضنك بكل وسيلةٍ ممكنة، وربما بكل ثمن، حتى وإن كان في هذا عيب وطني، أو خروج على مبادئ الإجماع.
لا يحق لأحدٍ أن يحمّل هذه الصورة أكثر مما تحتمل، ولا أن يؤولها كيفما تشتهي نفسه، إلا أنها تظل صورة كاشفة ولا سابق لها، لم تأتِ من هامش المجتمع الغزّي، بل من قلبه المسكون بأوجاعٍ لا نهاية لها.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي