صمت رسمي مغربي مُخجل
مغاربة في مسيرة لدعم غزّة وفلسطين في الرباط (11/2/2024 الأناضول)
يستغرب مراقبون داخل المغرب وخارجه الصمت الرسمي المغربي المُخجل حيال ما يجري في الشرق الأوسط من تطوّرات خطيرة قد تطاول تداعيتها المنطقة كلها بما فيها المغرب، ويتساءل هؤلاء أين هو الموقف الرسمي المغربي مما ترسمه أميركا وإسرائيل من مخطّطات جهنمية تريد تصفية القضية الفلسطينية وتحويل الفلسطينيين إلى لاجئين ومشرّدين في بقاع الأرض العربية، بما فيها المغرب الذي طرح وجهة مقترحة لخطّة التهجير التي ترعاها أميركا وتنفذها إسرائيل.
حتى كتابة هذه المقالة، لم يصدر علنا أي موقف رسمي مغربي تجاه الخطط الإسرائيلية الأميركية لتهجير الفلسطينيين التي لاقت إدانات على نطاق واسع، باعتبارها "تطهيراً عرقيّاً"، من دول كثيرة، بما فيها دول أوروبية حليفة لإسرائيل وأميركا. وكان لافتاً للانتباه صمت الرباط حتى عندما اقترح نتنياهو توطين الفلسطينيين في السعودية التي تربطها علاقات قوية مع المغرب، وخاصة التي تربط بين الأسرتين الملكيتين الحاكمتين في البلدين. وعندما سئل وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة عن موقف بلاده من محاولة اقتلاع سكان غزّة بالقوة من أرضهم وتهجيرهم إلى مصر والأردن، اكتفى بالقول إن "القرار يقع على عاتق الفلسطينيين"، ولما طُلب منه التعليق على تقارير إعلامية إسرائيلية تشير إلى إمكانية نقل سكان غزّة إلى أماكن أخرى، بما فيها المغرب، ارتبك ولم يجد من جواب سوى القول إنه لا يعلق على "كلام الصحف"، وهو الذي لا يترك فرصة تمرّ من دون التعليق على ما يصدر عن وسائل إعلام بلد جار في موضوع آخر غير ذي صلة بإسرائيل وبالقضية الفلسطينية التي يعتبرها أغلب المغاربة قضية وطنية، ليس اليوم فقط، وإنما منذ وجدت هذه القضية.
لم يبدأ هذا الصمت المغربي المخجل اليوم، فقد لازم الدبلوماسية المغربية منذ شنت إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزّة قبل 15 شهراً، صدرت خلالها بيانات وتصريحات رسمية خجولة كانت تساوي بين الضحية والجلاد، تتحدّث بحياد بارد عن "أعمال عدوانية" للإشارة إلى حرب الإبادة، وتضع المقاومة الفلسطينية في الكفة نفسها التي تضع فيها المتطرّفين الصهاينة. وبالرغم من المطالب الشعبية بوقف كل أشكال التطبيع مع إسرائيل، حافظت الرباط على علاقتها الدبلوماسية مع تل أبيب، واستمر العمل سارياً بجميع الاتفاقات مع دولة الاحتلال. وأبرمت عدة صفقات أسلحة بينها، كما استمرّت زيارات مسؤولين وسياح إسرائيليين للمغرب، ورفع العلم الإسرائيلي في عدة تظاهرات رسمية داخل المغرب في تحدٍّ سافر لمشاعر المغاربة. وفي المقابل، تسامحت الرباط، على مضض خوفا من غليان الشارع واحتقان المشاعر، مع الاحتجاجات الشعبية التي تواصلت في عدة مدن مغربية طوال الشهور الماضية، لكن السلطات نفسها لم تتردّد في منع مظاهرات عديدة مساندة لفلسطين وقمعها، واعتقلت نشطاء مؤيدين للقضية الفلسطينية ومناهضين للتطبيع، وقدّمتهم للمحاكمة، وزجّتهم في السجون. وكانت تملي هذا التقلب في مزاج السلطات المغربية تقلبات موازين القوى في المنطقة وفي العالم حيال ما يجري في غزّة وفلسطين عموما.
لم يبدأ الصمت المغربي المخجل اليوم، بل لازم الدبلوماسية المغربية منذ شنت إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزّة قبل 15 شهراً
لماذا مساءلة الصمت الرسمي المغربي تجاه الجرائم على أرض فلسطين، وخاصة تجاه ما يُطبخ من صفقات خطيرة لتهجير الفلسطينيين وتصفية قضيتهم؟ ... أولا، لأن للمغاربة مواقف تاريخية في مناصرة القضية الفلسطينية، وخلال 15 شهراً الماضية، كانت مدن المغرب وقراه شاهدة على المواقف الشعبية المغربية المناصرة لغزّة وسكانها، ويكاد المغرب يكون أول بلد عربي، مع استثناء دول عربية خرجت فيها مسيرات حاشدة، بدعم من سلطاتها كما هو الحال في اليمن والعراق، شهد خروج آلاف المظاهرات والوقفات والمسيرات الشعبية التلقائية، في جميع ربوعه لنصرة أهل غزّة، بدون موافقة السلطات الرسمية، وأحيانا رغم قرارات منعها ومحاولات قمعها.
ثانيا، لأن المغرب لعب أدوارا مهمة في الصراع العربي الإسرائيلي، واستمرّ حتى التاريخ القريب فاعلا أساسيا في محطات حاسمة، باستضافة قمم عربية تاريخية وترؤس لجان عربية مهمة لمناصرة القضية الفلسطينية والحق العربي في فلسطين.
ثالثا، لأن المغرب، وخاصة عاهله محمد السادس، هو رئيس لجنة القدس، وهذه مسؤولية معنوية ورمزية كبيرة تستدعي مواقف واضحة وصريحة، وحضورا قويا لصوت المغرب، بما يمثله من ثقل رمزي ومعنوي وتاريخي وديني في الصراع العربي الإسرائيلي.
رابعا، لأن السلطات الرسمية عندما وقعت على اتفاقات التطبيع المشؤومة، تعهدت رسميا وعلى أعلى مستوى بأن لا يكون التطبيع على حساب مواقف المغرب التاريخية من القضية الفلسطينية، وباستمرار الرباط في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين حتى إقامة دولتهم المستقلة.
لم يصدر أي موقف رسمي مغربي تجاه الخطط الإسرائيلية الأميركية لتهجير الفلسطينيين
الصمت الرسمي المغربي الحالي مخجلٌ ومهين، لا يمثل المغرب وغالبية المغاربة الذين يخرجون في التظاهرات الحاشدة للتعبير عن مناصرتهم القضية الفلسطينية ومناهضتهم التطبيع، وأكثر من ذلك يجلب الذل والعار لكل مغربية أو مغربي حر يعتبر قضية فلسطين قضيته، وهؤلاء يعدّون بالملايين لو أتيحت لهم الفرصة للتعبير بحرية عن آرائهم ومواقفهم.
في أثناء وقوفه أمام الكونغرس، للمطالبة بعزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على أثر اقتراحه تهجير سكان غزّة والاستيلاء عليها لتحويلها إلى مشروع عقاري، وهو ما يرقى إلى جريمة تطهير عرقي، قال النائب الديمقراطي آل غرين، الذي كان يقف وحيدا تحت قبة الكابيتول: "في بعض القضايا، من الأفضل أن تقف وحدك على أن لا تقف أبداً، وفي هذه القضية أقف وحدي لكني أقف من أجل العدالة"، وسوف يأتي اليوم الذي يذكر له التاريخ هذا الموقف الشجاع. وقد حان الوقت للوقوف وقول كلمة الحق قبل فوات الأوان: "عار على المغرب الرسمي مواقفه المذلة لشعبه وتاريخه.. اخجلوا من صمتكم وخوفكم، فالدول والشعوب تعيش بمواقفها الشجاعة والواضحة التي تصنع التاريخ. اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد!".