صف العسكر رايح يخسر

صف العسكر رايح يخسر

31 أكتوبر 2021
+ الخط -

"صفّ العسكر رايح يسهر"... لكن هذه المرّة لن يكون السهر على الحدود لمقارعة الأعداء، كما رغب المطرب إيلي شويري ذات أغنية قديمة، بل سيكون السهر في فنادق الخرطوم من فئة خمس نجوم هذه المرّة... أليس من حق العسكر أن يظفروا ببعض الرفاهية أيضاً؟

في الواقع، لا يحتاج عبد الفتاح البرهان إلى برهان ليبرهن فيه أنّ مآلات الانقلابات التي يقودها العسكر لا تفضي في خاتمة الخروج من الثكنات إلّا إلى متواليةٍ لا نهاية لها من النكسات التي تلد النكسات، حتى وإن صدقت في بعضها النيّات.

كنا نعرف جيداً مصير ثورة الربيع السودانية، لأنّها نسخة طبق الأصل عن أسلافها في مصر السيسي، وسورية الأسد، وعراق عبد الكريم قاسم. يلتقط فيها جنرالاتٌ بارعون لحظة غضب شعبي ما، أو بلبلة سياسية عابرة، ليُجهزوا على الأنظمة القائمة، ويعلنوا أنفسهم "المخلّصين"، و"المنقذين"، و"المصحّحين" للخطّ الوطني الذي انحرف عن مساره، جرّاء عبث العابثين من أزلام النظام البائد، ثم لا تلبث شهوة السلطة أن تحيلهم إلى أصنام موجبة للطاعة العمياء، والعبادة والتقديس والتعظيم في مراحل لاحقة، أما الثكنات فتظلّ خاويةً من عسكرها.

عرفنا ذلك، غير أنّنا لم نعرف كيف انطلت الخدعة على ناشطين مدنيين، من أمثال عبد الله حمدوك، ورهطه، ممن جعلهم البرهان دروعاً سياسية أمام دروعه العسكرية، في مواجهة الشعب الذي كان يرنو إلى تغيير سلمي، لا يعبث به العسكر، سيما أنه اختبر من أعناق أبنائه المدلاة على حبال المشانق، وجلودهم التي جففتها الزنازين، كارثة الحكم العسكري، منذ جعفر نميري إلى عمر البشير.

توارى البرهان خلف صنيعته التي أطلق عليها "حكومة مدنية" مؤقتة، وراح ينفذ من ورائها، وأحياناً من خلالها، أجندته التي دوّنوها له في أبوظبي وتل أبيب، وفي مقدمتها توريط السودان بمعاهدة سلام مع إسرائيل، وضمّه إلى المطبّعين الجدد، فضلاً عن مآرب أخرى لعصا المارشالية التي اعتاد جنرالات السودان حملها، تلويحاً لكلّ من يحاول شقّ هذه العصا وطاعتها. وتساءلنا حينها كيف يقبل حمدوك ورفاقه، وهم الناشطون الذين ضربوا سهماً في ثورة الربيع، وحملوا آمال الشعب السوداني بالتحرّر والانعتاق، على أنفسهم مجاراة البرهان وطغمته في مثل هذا التوجه الخطير، والانقلاب حتى على معتقدات الشعب المناوئة لكلّ ذي علاقةٍ بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، وهل ارتضوا أن يكونوا مطيّة لـ"صفّ العسكر؟".

كانت أسئلة مقلقة، بالفعل، ربما أجاب عن نصفها الانقلاب الثاني للبرهان على صنيعته، وزجّها في السجون والإقامات الجبرية، وتجريدها من سلطاتٍ لم تمتلكها أصلًا، فنحن حتى الآن لا نعلم في أي موضع بالضبط تضاربت الأجندات بين المدنيّ والعسكريّ، وإن كنتُ لا أعتقد أنّها مسّت برنامج التطبيع، وإلّا لكان حريّاً بحمدوك وحكومته المدنية أن يعلنا موقفهما الرافض هذا التوجه منذ البداية، غير أنّهما لم يفعلا ولا حتى في النهاية، ولم يصدُر عنهما أدنى موقفٍ يشي بذلك.

لن نردّد مع بعض القائلين: "فخّار يكسّر بعضه ما دام الطرفان لا يختلفان على التطبيع" لأنّنا ندرك جيداً أنّ المتضرّر الوحيد من هذا الفخّار المكسور هو الشعب السوداني الذي يستحق ختاماً مسكاً لتضحياته، لكنّنا نقف مطولاً عند هذا التماهي الغريب بين المدني والعسكري في عالمنا العربي، وعن هذه الشهوة البدائية للسلطة التي تسيّس العسكري وتعسكر السياسي، إذا تطلّب الأمر مثل هذا "الانقلاب" على الرتب والياقات، إذ سرعان ما يخلع العسكريّ بزته حال تسلمه السلطة، ليظهر بمظهر السياسي الناعم الذي يتقن فنون الدبلوماسية بكلّ مراوغاتها ودهائها، بينما يتخلى المدنيّ عن ربطة عنقه وبدلته السوداء، ليتزيّا بالفوتيك الأخضر، والطاقية العسكرية، ليبرهن كما برهن البرهان، قبلاً وحاضراً، أنّ الأوامر العسكرية تصلح أن تكون "مدنية" أيضاً. وكما برهن نظير له في تونس، هو قيس سعيّد، أنّ باستطاعة البدلة المدنية والشهادة الأكاديمية أن تصدرا الأوامر العسكرية العرفية بحل البرلمان ووقف قطار الديمقراطية بجرّة "قدم"... وفي الحالين، يتساوى راكبو الدبابات وراكبو السيارات.

لكن في الحالين أيضاً "صفّ العسكر رايح يخسر".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.