صراع على النفوذ في قمّة طهران

صراع على النفوذ في قمّة طهران

03 اغسطس 2022

الرؤساء التركي أردوغان والإيراني رئيسي والروسي بوتين في طهران (19/7/2022/الأناضول)

+ الخط -

على الضدّ مما أعلنه أطراف مسار أستانة بشأن سورية عن عدم ارتباط قمتهم، في طهران يوم 19 من الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، بجولة الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، الشرق أوسطية، (13 – 16 منه)، والقمة التي عقدها في جدّة مع قادة تسع دول عربية في اليوم الأخير منها، فإن الارتباط ثابت وبيّن؛ حيث كشفت اللقاءات والبيانات الصحافية الثنائية وبيان قمتهم، وما تضمنته من مواقف ضد الحضور الأميركي الثقيل في سورية والإقليم، ما يمكن أن ينجم عن اتفاقيات قمّة جدة للأمن والتنمية، في حال جرى تفعيلها، في المديين القريب والمتوسط من نتائج، وانعكاسها على مصالحهم وأمن دولهم.

أراد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بمشاركته في قمّة خارج روسيا ومحيطها السوفييتي، حيث كان زار طاجيكستان وتركمانستان، وشارك في قمة دول بحر قزوين في شهر يونيو/ حزيران الماضي، تقديم دليل عملي على فشل الخطة الأميركية لعزله إقليميا ودوليا، والعمل على تمتين الروابط والمصالح بين أطراف مسار أستانة، واستخدام وزن روسيا فيه لتعزيز أوراقه في وجه الضغوط الغربية بدفع شريكي أستانة إلى تبنّي رؤيته بشأن "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا وارتباطها بالصراع مع الغرب على مستقبل النظام الدولي؛ والتحرّك ضد الوجود الأميركي على الأرض السورية بعدما تحوّلت سورية، على وقع الصراع في أوكرانيا، إلى ساحة مواجهة بينهما، لم يكن من قبيل المصادفة أن يكثف قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال مايكل كوريلا، زياراته ولقاءاته في سورية، بالتزامن مع انعقاد قمة طهران، وما قد يترتّب على ذلك من مواجهات ومخاطر.

سعى الرئيس التركي، أردوغان، إلى استخدام معطيات اللحظة السياسية وحاجات الطرف الروسي في صراعه المحتدم مع الولايات المتحدة في الساحتين، الأوكرانية والسورية، للحصول على تنازلاتٍ سياسية روسية في سورية بمباركة العملية العسكرية التركية المزمع تنفيذها في منبج وتل رفعت، وتعزيز صورته وصورة تركيا عالميا بإنقاذه العالم من المجاعة التي أطلت برأسها في ضوء توقف شحن الحبوب من أوكرانيا وروسيا إلى بقية الدول عبر العمل من أجل اتفاق يضمن عودة شحن الحبوب الأوكرانية إلى الدول المتضرّرة من توقفه.

وجود فجوة بين أطراف قمّة طهران، روسيا وإيران وتركيا، وتعارض في المصالح والتطلعات

سعى الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، الذي استضاف القمة، إلى تعزيز أوراق إيران في تفاوضها مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي، والسعي عبر تمتين الروابط مع روسيا والاتفاق معها على رؤية مشتركة للنظام الدولي، ولامتصاص مفاعيل قمة جدّة وإقناع دول الخليج عامة، والسعودية خصوصا، بامتلاك إيران أوراق قوة مضمونة وثابتة توازي القوة الأميركية غير المضمونة؛ وإن الأجدى، بالنسبة إليها، التخلي عن وهم الاعتماد على حليفٍ غير مضمون، والانحياز لتفاهم إقليمي يحفظ أمن دول المنطقة ومصالح شعوبها، من جهة، واستثمار حاجة روسيا إلى إيران في "معركتها" المحتدمة مع الولايات المتحدة وحلف الناتو في أوكرانيا في عقد اتفاقيات ثنائية في مجالات الطاقة والأسلحة، وتعزيز دور إيران في سورية عبر التنسيق والتكامل بين الطرفين، في مواجهة الدورين الأميركي والتركي فيها.

يمكن للمتابع المدقق اكتشاف وجود فجوة بين أطراف القمة، وتعارض في المصالح والتطلعات، جسّده، وبكل وضوح، رفض الرئيسين الروسي والإيراني طلب الرئيس التركي الموافقة على تنفيذ عملية عسكرية ضد قوات سورية الديمقراطية (قسد) في منطقتي منبج وتل رفعت، وتحذيرهما من المخاطر التي تنطوي عليها العملية على استقرار المنطقة ووقف إطلاق النار القائم؛ والاكتفاء بالموافقة على النص في البيان الختامي على محاربة الإرهاب، من دون تحديد من هو الإرهابي المقصود، وإدانة المشاريع الانفصالية، ما يُفهم منه رفض تجربة "الإدارة الذاتية" التي أقامها حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) شرق الفرات، واعتبار ذلك أقصى ما يمكن التنازل عنه، صيغة مواربة تسمح للرئيس التركي بالزعم أنه حقق مكسبا على صعيد معركته ضد "قسد" وحزب العمال الكردستاني. وقد كانت لافتةً موافقته على إدانة الوجود الأميركي على الأرض السورية والتنديد بالضربات الإسرائيلية داخل سورية. علما أن هذا ليس في صالح تركيا، فالوجود الأميركي على الأرض السورية يقيّد تحركات روسيا وإيران، وعودة الدفء إلى العلاقات مع إسرائيل ما زالت هشّة، لكن أردوغان المسكون بالعداء للكرد، والذي استفزّته تعزية وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) "قسد" بمقتل قياديات في قوات حماية المرأة استهدفتهن مسيّرة تركية. أُخذ القرار وقُبل النص تحت تأثير رد الفعل على التصرف الأميركي، وللضغط على الإدارة الأميركية لوقف دعمها "قسد"، علما أن خروج القوات الأميركية، الذي سينعكس سلبا على "قسد"، ليس في صالح تركيا المحاصرة بالتفاهم الروسي الإيراني على إخراجها من سورية، ما يعني خسارة نفوذها ودورها في الملف السوري، وتمدّد إيران نحو حدودها الجنوبية.

لقد عكست المواقف المعلنة والبيان الختامي تنسيقا روسيا إيرانيا لمحاصرة تركيا ووضعها في موقف دقيق: القبول باستمرار الوضع القائم أو مواجهة موقف جماعي مضاد، روسي إيراني إلى جانب قوات النظام السوري و"قسد"، ومستعد للقتال. وهذا ما عملت على تأكيده الحشود والتعزيزات الكبيرة والتدريبات والمناورات بالذخيرة الحية، وتنفيذ غارات وقصف شامل وعنيف ومحاولات تسلل متواترة. لا يغير من دقّة الموقف غض نظر روسيا عن استهداف قادة "قسد" وكوادرها بالمسيّرات، لأنه (الاستهداف) يمنحها فرصة للضغط على "قسد" للقبول بعروض النظام السياسية والاقتصادية والعسكرية.

لم يتوقف التنسيق الروسي الإيراني عند محاصرة تركيا والمحافظة على الوضع القائم في شمال شرقي سورية

يرتبط التفاهم والتنسيق بين روسيا وإيران ضد تركيا بعوامل عديدة، لعل أولها العامل الاستراتيجي، كونها، تركيا، جزءا من التحالف الغربي، وعضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وعلى أرضها قواعد غربية تحتوي على أسلحة متطوّرة، بما في ذلك أسلحة نووية، ولها ارتباطات قديمة وعميقة مع الدول الغربية في مجالات الاستثمار والسياحة والتسليح، ما يستدعي التحوّط والحذر والتعامل المرحلي معها في ضوء تقاطع المصالح ودورها المهم في هذه اللحظة السياسية الدقيقة والحساسة، من دون اعتبار التعاون تحالفا حقيقيا. العامل الثاني، التنافس الجيوسياسي، حيث الإقليم ساحة لتنافس جيوسياسي بين مشاريع ومصالح متعارضة، بما في ذلك مشاريع ومصالح أطراف مسار أستانة، فروسيا تشكّ بمصداقية المواقف التركية، ولا تثق بثباتها، وترى أنها تعمل على تنفيذ أجندة أميركية في المنطقة عموما، وسورية خصوصا، في ضوء كونها عضوا في حلف الناتو، من جهة، وحاجة تركيا لدعم أميركي في التنافس معهما في آسيا الوسطى، حيث التنافس الحاد على النفوذ بينهم واعتماد كل منهم على عناصر محدّدة: الدول ذات أصول تركية، بالنسبة لتركيا، والدول ارتبطت مع روسيا في ظل النظام السوفييتي، بالإضافة إلى التداخل السكاني والحدود المشتركة الطويلة مع هذه الدول، بالنسبة لروسيا، والدول كانت جزءا من الإمبراطورية الفارسية، بالنسبة لإيران، من جهة ثانية.

هذا بالإضافة إلى قلق إيران وتوجسها من مشاركة تركيا في محاصرتها على خلفية انفتاحها على إسرائيل والسعودية والإمارات، فالتعاون المديد والمواقف المتناغمة في مواجهة العقوبات الغربية والعلاقات الاقتصادية القوية لا يبرر هذا كله الثقة بها بعد دورها في هزيمة حليفتها أرمينيا في ناغورني كاراباخ، وتعارض مصالحهما في العراق بدعمها السنّة وتعاونها مع قيادة إقليم كردستان العراق في مجال تصدير النفط والغاز، ما يضعها في موقع الشريك غير الموثوق به، فمحاصرة تركيا في سورية والحد من دورها ونفوذها يخدمان مصلحتهما.

لم يتوقف التنسيق الروسي الإيراني عند محاصرة تركيا والمحافظة على الوضع القائم في شمال شرقي سورية، بل امتد ليشمل الموقف في أوكرانيا، على خلفية مخاوف مشتركة من عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، حيث تبنّت إيران الرواية الروسية بشأن الغزو الروسي لأرض أوكرانيا باعتباره ردّا استباقيا على خطط حلف الناتو ضد روسيا، وقد أكّد ذلك عمليا ما نُشر عن نية إيران بيع مسيّرات هجومية لروسيا وتنسيقهما ضد إسرائيل؛ فروسيا المستاءة من موقف إسرائيل من الغزو الروسي لأوكرانيا ردّت بإدانة الضربات الإسرائيلية ضد مواقع إيران على الأرض السورية إدانة شديدة، واستخدمت حزب الله في عرقلة استخراج الغاز من حقل كاريش وتصديره إلى دول الاتحاد الأوروبي، أوكلت العرقلة إلى حزب الله تعبيرا عن قبولها تبعية لبنان لإيران.

أكّد بوتين للقيادة الإيرانية أنه حليف استراتيجي، واتفق معها على منحها حق السيطرة على سورية

لم ينه اختتام القمة وصدور بيانها الختامي المناورات، وإطلاق المواقف للتعبير عن مدى الرضا بالنتائج واستكمال الحوار، فالرئيس بوتين أكد للقيادة الإيرانية أنه حليف استراتيجي، واتفق معها على منحها حق السيطرة على سورية، رغم اعتراض الرئيس التركي، واستهدف أوديسا ليقول إن قرار توريد الحبوب ما زال في جيبه. وقد جدّد الرئيس أردوغان إصراره على تنفيذ العملية العسكرية ضد "قسد". ويمكن قراءة تصريح وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، عن استعداد بلاده لدعم سورية في مواجهة "قسد" محاولة لتسليط الضوء على الأخيرة باعتبارها رأس الإرهاب، وأكّد للرئيس الروسي رفضه فكرته عن تلزيم سورية لإيران، وقال: "أي محاولة لبسط سيطرة إيران على سورية إنما تتناقض مباشرة مع المصالح القومية لتركيا، وأنقرة جدّيّة جدّاً عندما يتعلق الأمر بمصلحتها القومية". واستهدف الإدارة الأميركية بدعوتها إلى الانسحاب من سورية، واستفزّها أكثر بحديثه عن تعاون محتمل بين أنقرة وطهران في مجالات التصنيع العسكري. واستهدف القيادة الإيرانية بالاتفاق مع الرئيس الروسي على لقاء قمة ثنائي في سوتشي بعد أسبوعين من القمة العتيدة.

ربطت تقديرات سياسية قصف منتجع سياحي في زاخو، إقليم كردستان العراق، قُتل فيه مدنيون، بوضع تركيا في موضع المدان بقتل المدنيين لعرقلة أي تفاهم روسي تركي على حساب إيران. في حين أعلنت القيادة الإيرانية أكثر من موقف، من استعدادها لتولي السيطرة على سورية وتثبيت النظام؛ إلى إرسال رسائل إلى أكثر من عنوان، خصوصا إلى الولايات المتحدة والسعودية، عبر إعلان وإبراز نبأ عودة قريبة للرئيس الروسي إلى طهران، لتوقيع اتفاق استراتيجي مع القيادة الإيرانية يشبه، إلى حد كبير، الاتفاق الصيني الإيراني، علما أن مثل هذه الاتفاقات تصبّ في مصلحة الجهة الأقوى، ما سيحوّل إيران إلى تابع لروسيا إلى جانب تبعيّتها للصين. ويمكن قراءة القرار الأميركي بتعليق بعض العقوبات على إيران لوقف توجهات كهذه، فالإدارة الأميركية عالقة في متاهة خيارات من محاولة إبعاد "قسد" عن روسيا والنظام إلى محاولة إبعاد تركيا عن روسيا وإيران، ولو استدعى ذلك غضّ نظر عن عملية تركية محدودة ضد "قسد"، إلى محاولة استرضاء تركيا بالضغط على "قسد" للاستجابة لمطالب الأخيرة، مبادرة ليندسي غراهام، كي يُلغي مبرّر تنفيذ عملية عسكرية في منبج وتل رفعت.