صراع الحوارات وشبح الدولة الرخوة في تونس

صراع الحوارات وشبح الدولة الرخوة في تونس

06 ديسمبر 2020
+ الخط -

مع اقتراب الذكرى العاشرة للثورة التونسية (يناير/كانون الثاني 2011)، تتصاعد وتيرة التطورات التي تشهدها أنحاء كثيرة من البلاد، جرّاء العمل على تعطيل المرافق الحيوية للدولة ومصالح المواطنين، والذي تقوم به مجموعات، أو "تنسيقيات" كما تطلق على نفسها، ذات خطاب مطلبي احتجاجي، يصل إلى تعطيل مصادر الإنتاج وهياكل البنية الأساسية، في تحدٍّ معلن لسلطة الدولة، بتمثيلياتها الجهوية ومؤسساتها المركزية، ما أدّى إلى تردّي الوضع، وإلى تداعيات خطيرة اجتماعيا واقتصاديا. وأمام هذا الحال، أذن رئيس الحكومة، هشام المشيشي، بالتحرّك الفوري لبسط سلطة القانون، والتدخل بالتنسيق مع النيابة العمومية لفتح الطرقات وإعادة تشغيل مواقع الإنتاج التي أدّى غلقها إلى صعوباتٍ في التزوّد بالمواد الأساسية لدى عموم التونسيين، والإضرار بمصالحهم الحيوية وأمنهم العام وأمن البلاد القومي. وتوجهت مكونات المجتمع المدني ووسائل الاتصال الاجتماعي ومثقفون وغيرهم إلى الرئيس قيس سعيد بضرورة تقديم مبادراتٍ في سبيل وضع حد لما يحصل، وذلك انطلاقا من صلاحياته الدستورية وسلطته المعنوية والاعتبارية، في سبيل إيقاف كل الممارسات الخارجة عن القانون والهاتكة لسلطة الدولة وهيبتها.

وفي غضون هذه التداعيات الخطيرة، غابت الأحزاب في مختلف جهات البلاد، متخليةً عن دورها الاجتماعي، وعن مشاغل المواطنين، متناسية كل وعودها الانتخابية الفضفاضة، كما تواصلت المناكفات والتجاذبات والاتهامات تحت قبة البرلمان، واكتفت المنظمات الوطنية بمراقبة الوضع في غياب تقديمها مبادراتٍ تحد من تداعيات هذا الحراك الصعب، وما أدّى إليه من انفلاتٍ لم يسبق أن عرفته البلاد.

صراعات للهويات وللسياسات تؤسس للفرقة قبل اللقاء، وللإقصاء قبل الحوار.

في ظل صمت الرئيس، وغياب الأحزاب، والتزام المنظمات الوطنية صفة المراقب السلبي، ووقوف المجتمع المدني على الربوة، حصل شبه إجماع على ضرورة إطلاق حوار وطني شامل، سياسي واجتماعي، على أمل التوصل إلى حلحلة الوضع، وإخراج البلاد من نفق الأزمات المتفاقمة والمتعدّدة غير المسبوقة، والتي زادتها تداعيات جائحة كورونا حدّة وعمقا، علاوة على مؤشرات الصراعات غير المعلنة والخطيرة بين المكونات السياسية.

استحضرت الدعوة إلى الحوار الوطني ذلك الحوار الوطني الذي انطلق صائفة 2013، وتم برعاية الرباعي، الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية ورابطة حقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين، في أعقاب أزمة حكومة الترويكا، وعلى إثر اغتيالات شخصيات وطنية، وزحف الإرهاب، وانسداد أفق إنقاذ البلاد من أزمتها السياسية والاجتماعية. كان حوارا أطلقته أطرافٌ تحظى بالمصداقية، توّج بمخرجاتٍ أنقذت البلاد من نفق الأزمات، ونال ما يستحق من التتويج بحصول أصحابه على جائزة نوبل للسلام. نجح في الماضي، ولكن هذه المنظمات التي دعت إليه، ونجحت فيه، لم يعد في إمكانها وحدها اليوم أن تعيد التجربة نفسها بعد دستور 2014، وما أدى إليه من انتخاب سلطات دستوريةٍ لا يمكن تجاوز دورها، والقفز على صلاحياتها.

شبه استحالة لأي حوار وطني في ظل هذه الصراعات والرغبات والاشتراطات التي أصبحت معلنة بين مختلف الجهات الداعية إلى هذا الحوار

تبحث تونس اليوم عن جهة تجمع التونسيين، وتدعو المكونات السياسية إلى الجلوس إلى مائدة الحوار، فقد دعا رئيس الحكومة أمام مجلس النواب، بمناسبة تقديم مشروع ميزانية 2021، إلى حوار اقتصادي واجتماعي ترعاه الحكومة. وقبل ذلك، اعتبر رئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، أن البرلمان هو الإطار المناسب والأجدر بأي حوار وطني. وبادرت المنظمة النقابية الأعرق والأكبر، الاتحاد العام التونسي للشغل، إلى إطلاق مبادرة للحوار، وقدّمتها لرئيس الجمهورية، بالنظر إلى الشرعية الدستورية والانتخابية (انتخب مباشرة من الشعب)، وباعتباره كذلك مجمعا للتونسيين، ولكن الرئيس أعلنها صراحةً أنه لا يتحاور مع "الفاسدين"، من دون تحديد هويتهم أو أسمائهم، أحزابا أم منظمات أم أشخاصا، وإن ألمحت تسريباتٌ مؤكّدة إلى أن الرئيس يعني إبعاد حزب قلب تونس، وكذلك ائتلاف الكرامة، حليفي حركة النهضة في البرلمان، وهو إبعاد لن تقبل به الحركة. واشترط الحزب الدستوري الحر استبعاد حركة النهضة من الحوار، وبذلك يتم "إقصاء" البرلمان بأسره من الحوار. وهذا مشهد لن تقبله الأحزاب والمنظمات الوطنية، وحوار مشلول، لو تم، لن تكون له شرعية برلمانية.

تبحث تونس اليوم عن جهة تجمع التونسيين، وتدعو المكونات السياسية إلى الجلوس إلى مائدة الحوار

تأسيسا على ما سبق، هنالك شبه استحالة لأي حوار وطني في ظل هذه الصراعات والرغبات والاشتراطات التي أصبحت معلنة بين مختلف الجهات الداعية إلى هذا الحوار.. صراعات للهويات وللسياسات تؤسّس للفرقة قبل اللقاء، وللإقصاء قبل الحوار. وهنا، نستحضر من عالم الاقتصاد والحقوق والاجتماع السياسي، السويدي غونار ميردل، نظريته "الدولة الرخوة" التي طرحها في العام 1970، وهي الدولة التي تصدر القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأن لا أحد يحترم القوانين. الكبار لا يبالون بها، لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم، والصغار يتلقون الرشاوى بغض البصر، أما الفقراء الذين لا مال لهم ولا رشاوى، فيتم ضبطهم بأساليب جديدة.

هل يعود الوعي إلى الطبقة السياسية في تونس، لتنزع مكوناتها جلابيب الصراعات والحسابات والأنانيات، ليجلسوا إلى حوار جاد يخرج البلاد من النفق المظلم، أم تظل مهدّدة بشبح الدولة الرخوة؟

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي