صراع الأجنحة في تونس وتدافع الإرادات
تونسيون يتظاهرون في العاصمة للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين (14/1/2025 Getty)
تخوض الناشطة الحقوقية والمناضلة السياسية التونسية، سهام بن سدرين، معركة الأمعاء الخاوية. هذه المرأة التي عرفت منذ بداية السبعينات بمعارضتها نظام بورقيبة ثم بن علي. وبعد الثورة، تحمّلت مهمة الإشراف على هيئة الحقيقة والكرامة، ودخلت في خلافٍ عاصفٍ مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، كما عارضها أنصار النظام السابق الذين اختلفوا معها بشأن المنهجية التي سلكتها في الكشف عن الجرائم والتجاوزات التي انتهكت منذ الاستقلال إلى ما بعد الثورة. فجأةً وجدت نفسها ملقاة بزنزانة في سجن النساء، وهي في سن الخامسة والسبعين، بتهمةٍ لم تقنع الهيئات الحقوقية داخل تونس وخارجها. وعندما زارها محاموها أكدت لهم أنها لن توقف إضراب الجوع إلا عند إطلاق سراحها، أو في حال الوفاة لا قدّر الله.
بن سدرين واحدة من بين 170 سجيناً سياسياً معتقلين منذ فترة طويلة، لا يزال معظمهم ينتظر أحكاماً نهائية. ولأن الزمن القضائي قد طال من دون البتّ في قضايا كثيرة، اشتد الضيق، واتسع نطاق التململ في صفوف النخب ذات الحسّ الديمقراطي، وتعدّدت أسئلتهم وأشكال تحرّكاتهم. وسرعان ما انتقل التململ إلى مجلس النواب الذي خفت صوته منذ غابت التعددية وحرية المبادرة. فجأةً طلب أحد النواب الكلمة، وشرع في قراءة نصٍّ لبيانٍ وقّعه 11 نائباً طالبوا بإطلاق سراح المساجين السياسيين، وإلغاء المراسيم الزجرية مثل مرسوم 54 من أجل تنقية المناخ السياسي. وقبل مواصلة النائب القراءة، قاطعه رئيس المجلس بحجة عدم احترامه قواعد الحوار في البرلمان، رغم علمه أن أصحاب المبادرة يرفضون "الجلوس مع من لا يؤمنون بمؤسّسات الدولة بعد 25 جويلية". واعتبر رئيس البرلمان أن الهدف من دعوات الحوار هو "الانقضاض على ما أُنجز"، مؤكّداً أن أي حوار يجب أن ينعقد داخل المؤسّسات التي انتُخبت بعد 25 جويلية (يوليو/تموز 2021). وبشكل موازٍ، بلغ عدد النواب المطالبين بتعديل المرسوم 54 بلغ 60 نائباً.
توقّع المراقبون أن تقتدي السلطة في تونس بشقيقتها في الجزائر التي أطلقت سراح مساجين رأي وسياسيين، ودعت إلى حوارٍ وصف بالوطني، بهدف إعادة بناء الثقة مع المعارضة. لكن الأمر في تونس اختلف، إذ توالت المؤشّرات العكسية. لم يطلق سراح أي موقوف، مهما كانت التهمة الموجهة إليه. وما قيل فسّرته المعارضة تفسيراً عكسياً، إذ اعتبر الرئيس قيس سعيّد أن المرحلة المقبلة تتطلب بناء "وحدة وطنية صمّاء" حول السلطة القائمة. وهو ما أثار نقاشاً في طبيعة هذه الوحدة المطلوبة التي يمكن فهمها في اتجاهيْن: اتجاه يفرض انفتاح السلطة على معارضيها، من خلال حوار مفتوح ومتعدّد المستويات والاتجاهات، يتناول القضايا الحارقة والجوهرية، وينتهي بصياغة عهد جديد وميثاق اجتماعي وطني جامع. وفي المقابل هناك صيغة الوحدة الصمّاء التي استند عليها نظام الرئيس بورقيبة التي كانت بمثابة الأيديولوجية المانعة للتعدّد والخانقة للحريات. وهي حالة سياسية أدت خلال الستينات إلى تفكك تدريجي للنظام والمنظومة، وانتهت إلى انفتاح سياسي استمرّ إلى حدود تولي الجنرال بن علي السلطة عبر انقلاب 7 نوفمبر (1987).
تمر حالياً قطاعاتٌ واسعةٌ من النخبة التونسية بمرحلة قلقة، لهذا تعدّدت مطالبها، وشرعت في عقد ندواتٍ جمعت أطرافاً وأصواتاً من مواقع مختلفة، تنتظر بفارغ الصبر أن تدرك السلطة خطورة المأزق، وأن تعي أهمية رفع سقف الحرية عالياً. وهو ما يفسّر انتقال هذه الرغبة إلى الأوساط المساندة لرئاسة الجمهورية التي اقتنعت بأن استمرار الحالة الراهنة ليس في صالح السلطة، ويزيد من عزلتها. لكن هذه الأوساط المتمسّكة بالبقاء تحت سقف الشرعية الرئاسية، تواجه، في المقابل، تياراً آخر قوياً، يعارض بقوة أي شكل من الانفتاح السياسي. ويعتقد أصحابه أن كل خطوة تُتخذ في هذا الاتجاه سيستفيد منها خصوم الرئيس، وستعتبر بداية تراجع للمسار بكامله. لهذا، يشتدّ الصراع بين الجناحين، ولا يعرف لمن ستكون الغلبة في ظل أوضاع سياسية واقتصادية حرجة.