صديقُنا ونسيبُنا الهندي
الأستاذ المساعد في جامعة جورج تاون بدر خان سوري (وسائل التواصل الاجتماعي)
لو جمعَ مجتهدٌ في الدرس والبحث، ودوّن، سيَر المتضامنين مع فلسطين الذين زاروها، في السنوات العشرين الماضية أو أزيد قليلاً، لكسْر الحصار على غزّة، وللتظاهر ضد جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، وللانتصار لقضية فلسطين بين ظهراني أبنائها، لو بادرَ واحدٌ إلى هذا، لأحرزَ ذخيرةً طيبةً من الشواهد عالية القيمة على المشترك الإنساني الذي يُؤاخي قضية فلسطين مع سؤال العدالة في العالم، ذلك أنها سيرٌ مضيئةٌ وشائقةٌ، وملهمةٌ من قبلُ ومن بعد. وإذ تأتي الأخبار، منذ أيام، على اسم الهندي، بدر خان سوري، مُحتَجزاً في الولايات المتحدة التي يقيم فيها، بزعم "إضرارِه بالسياسة الأميركية" (!)، فإن التعرّف إلى سيرة هذا الشاب، مثقّفاً وأكاديمياً جامعياً، يفيدنا بأنه كان، قبل نحو 15 عاماً، واحداً من نشطاء أجانب تقاطروا على غزّة، انتصاراً لناسِها ضد الحصار الإسرائيلي غير الإنساني ضدّهم. وهذه وزارة الأمن الداخلي تطلبُ ترحيلَه من البلاد، ضمن الحملة التي تستهدف فيها إدارة ترامب من ندّدوا، في اعتصاماتٍ ومسيراتٍ وتظاهرات غضبٍ، بجرائم الإبادة التي تقترفها إسرائيل في غزّة، غير أن قاضيةً في ولاية فرجينيا قرّرت منع تنفيذ الترحيل، مؤقتاً.
تختصّ دراسات بدر خان سوري وأبحاثه الجامعية في السلام، وهو يستكملً بحث ما بعد الدكتوراه في جامعة جورج تاون عن "بناء السلام في العراق وأفغانستان"، ويدرّس في إحدى كليات الجامعة مادّةً عن "الأغلبية وحقوق الأقليات في آسيا". وظاهرٌ من مشاغله هذه، ومثيلاتٍ لها بشأن حرّيات الإنسان والديمقراطية في المجتمعات متنوّعة الأعراق، أن كرامة الإنسان وحقوقَه في دولة مؤسّساتٍ أولويةٌ لديه باحثاً. ولعل هذا من دوافع دعتْه إلى أن يزور غير بلد، مثل لبنان وفلسطين وسورية والعراق، ليتحسَّس، ما أمكنَه أن يفعل، العوائق البنيوية أمام إرساء دولة عدالة. ولعلّ هذا أيضاً ما جعلَه واحداً من أصدقاء فلسطين، قضية أفق عدالةٍ إنسانيةٍ، فيكون في غزّة، ثم يعود إليها ليتزوّج واحدةً من صباياها، الأميركية المولد، مفاز، ابنة القيادي السابق في حركة حماس. ليُصبح بدر خان ليس فقط صديقَنا، بل ونسيبَنا أيضاً. وقد أقامت معه عروسُه في بلده الهند، وصارت حفلة الزواج هناك، ليكون الحدثُ نادرُ المثال شاهداً على تداخل العاطفي الخاص والذاتي المفرد مع الثقافي العام والإنساني الواسع.
كأن شيئاً من هذه الحكاية، غزّية المقطع، يذكّر بالبريطانية آنا ويكس، التي كانت تتردّد على فلسطين، للتظاهر ضد الجدار العنصري في الضفة الغربية، وهي الناشطة في منظمّة نسوية للدفاع عن الشعب الفلسطيني، وتزوّجت فلسطينياً هناك. ويذكّر بالطبيب الألماني، هارولد فيشر، الذي تزوّج فلسطينية، وأقام في بيت جالا التي أودت بحياته فيها قذيفةٌ إسرائيلية. ويذكّر أيضاً بزواج الأميركية إيميلي واشمان بفلسطينيٍّ تعرّفت إليه في تظاهرة ضد الجدار. وليس الإتيان على هذه الزيجات هنا (وثمّة غيرُها) إلا للقول إن الأبعاد الإنسانية شديدةُ الغنى في تجارب أصدقاء فلسطين في العالم، وبعضٌ ليس قليلاً منهم استسهل جيشُ المحتلين الرصاص ضدهم، بل والجرّافات أيضاً (الأميركية ريتشيل كوري مثالاً)، فقضى منهم من قضى (البريطانيون إيان هوك وتوم هارندال وجيمس ميللر والإيطالي رفائيل تشيريللو، إلخ). وهذه قرارات ترامب القراقوشية، عندما تتزيّد في رمي شبّانٍ مسلّحين بقيمة العدالة بالعداء للسامية، تفوّض سلطات الأمن مجافاة القوانين الأميركية ومخاصمة دستور البلاد الذي يعلي حرّية التعبير عن الرأي إلى منزلة أولى أولويات حقوق الإنسان.
ليس مؤكّداً ما إذا كان المُحتجز بدر خان سوري سينجو من الملاحقة الأمنية السافرة في الولايات المتحدة التي يُقيم فيها باحثاً وأستاذاً جامعياً، ومتزوّجاً غزّيةً أميركية الجنسية. وليس مؤكّداً ما إذا كان الفلسطيني محمود خليل سيكسَب معركته القضائية ضد أمر ترحيله. وليس معلوماً المدى الذي تذهب إليه جائحة ترامب في تماديها ضد كل من جهر بالتضامن مع إنسانيّته، في الأول والمنتهى، عندما انتصر لأهل غزّة المتروكين للمجرم الإسرائيلي. المؤكّد والمعلوم أن فلسطين أفقٌ ثقافيٌّ وإنسانيٌّ كونيٌّ ... وهذه أمثولة صديقنا ونسيبنا الهندي يسافر إلى غزّة في زمن الحصار الأول، ويريدون في أميركا تسفيرَه في زمن عذابها الراهن.