صدمة رفع العلم الإسرائيلي في السويداء
شهدت ساحة الكرامة في مدينة السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، حادثة صادمة تمثّلت في رفع العلم الإسرائيلي أثناء تظاهرة احتجاجية. ما أثار ضجّة واسعة امتدّت من الأوساط الشعبية إلى النقاشات السياسية والإعلامية. وبالرغم من أن الحادثة لم تكن الأولى من نوعها في السويداء، فإنها جاءت هذه المرّة في سياقٍ أكثر حدّة، وتزامنت مع تصاعد المطالبات الانفصالية، ما فاقم التوتّرات في المنطقة، خصوصاً بعد المجازر التي طاولت السوريين الدروز، بدءاً باحتجاجات جرمانا، وصولاً إلى التدخّلات الإسرائيلية التي أعلنت صراحة استعدادها لـ"حماية" الدروز. حمل رفع العلم المذكور في ساحة الكرامة دلالات سياسية واجتماعية عميقة. فقد أثار انقساماً حادّاً بين السوريين، اعتبره فريق تصعيداً خطيراً واختراقاً رمزياً للحراك الشعبي في السويداء، فيما رآه آخرون فعلاً فردياً لا يمثّل توجهات المحافظة بأكملها. وفي وسائل التواصل الاجتماعي، عبّر ناشطون عن استنكارهم، معتبرين هذا السلوك يتناقض مع مبادئ الوحدة الوطنية، ومع مناصرة القضية الفلسطينية.
لم تكن الصدمة الكبرى من رفع العلم الإسرائيلي فقط، بل أيضاً في المطالبة بالانفصال عن سورية، وهو ما بدا انزياحاً جذرياً عن إرث سلطان باشا الأطرش، أحد أبرز رموز الاستقلال ومقاومة الاستعمار الفرنسي، الذي كرّس حياته للدفاع عن سورية دولة موحّدة مستقلّة. المفارقة أيضاً أن بعض مطالبات اليوم تأتي على النقيض من طموحات السوريين الدروز الذين التحقوا بالانتفاضة السورية ضدّ نظام الأسد مع باقي مكوّنات الشعب، وكان كورال السويداء أول المحتفلين بسقوط نظام الأسد، حين أنشدت السيدات هناك "بالحبّ بدنا نعمّرها". هذه الطاقة المدهشة من الفرح بسقوط نظام الأسد، سرعان ما بدأت بالتلاشي والتحوّل حزناً وشعوراً بالمرارة والإقصاء، تحوّل رغباتٍ في الانفصال بعد العنف الدموي الذي تعرّضت له السويداء بطريقة غير مسبوقة.
إسرائيل المستفيد الأول من تعميق الانقسامات السورية، فهي لا تعمل لحماية الدروز بقدر ما تعمل لتوسيع نفوذها
ورغم أن الدعوات الانفصالية في السويداء ليست جديدة، إذ بدأت هذه الأصوات تعلو منذ تعرّض المكوّن الدرزي للقمع بسبب انتمائه الطائفي، إلا أنها اكتسبت زخماً في الآونة الأخيرة نتيجة توترات متصاعدة وشعور بالتهميش والإهمال من الحكومة السورية، فضلاً عن المجازر التي استهدفت أبناء الطائفة الدرزية. وهنا استغلت إسرائيل هذه الأزمة لتعزيز نفوذها في الجنوب السوري، ونفّذت غارات على مواقع استراتيجية في دمشق، فضلاً عن إرسال مروحيات محمّلة بمساعدات عسكرية ولوجستية إلى السويداء. بهذا، يتضح أن إسرائيل المستفيد الأول من تعميق الانقسامات السورية، فهي لا تعمل لحماية الدروز، بقدر ما تعمل على توسيع نفوذها الإقليمي على حساب السيادة السورية، وسيُصدم السوريون الدروز حين يكتشفون أن إسرائيل ليست جادّة في حمايتهم، كما أن فكرة الانفصال في ذاتها ليست واقعية، لأن السويداء لا تحتمل تشكيل كيان "دولة" أو " إقليم" منفصل عن سورية، لا على الصعيد الجغرافي، ولا اللوجستي. لهذا، الاحتماء بإسرائيل فعل غير منطقي اليوم، لكن المسؤول الأساس عن تسرّب هذا الإحساس بالحاجة إلى إسرائيل هو الخوف والشعور بعدم الحماية لدى السوريين الدروز، ويتحمّل النظام الحاكم اليوم النتائج الكارثية كلّها الحاصلة في البلد، فغياب استراتيجية وطنية شاملة لدمج السويداء في المشروع الوطني، والاعتماد على القمع الأمني والعسكري بدلاً من الحوار، دفع شرائح من السكّان إلى الشعور بالعزلة واليأس. أمّا الوعود الرسمية بمحاسبة المتورّطين أو تشكيل لجان تحقيق، فبقيت بلا أثر فعلي في امتصاص الغضب الشعبي.
عمّقت السياسة المركزية الصارمة الهوة بين السويداء ودمشق، وفتحت الباب واسعاً أمام التدخّلات الخارجية. ولحماية سورية من النزعات الانفصالية، لا بدّ من التخلّي عن عقلية الحكم المركزي المغلق، والانطلاق نحو حوار وطني شامل يضمّ جميع مكوّنات المجتمع السوري. يمكن أن تمثّل الإدارة اللامركزية، التي تمنح المحافظات مثل السويداء قدراً من الحكم الذاتي، ضمن إطار الدولة السورية، حلاً وسطاً يحافظ على الوحدة الوطنية، ويلبّي في الوقت نفسه تطلّعات السكّان المحلّيين. هذا يتطلّب إرادة سياسية صادقة، وإشراك النُّخب المحلّية في صنع القرار، مع ضمانات دولية للحدّ من التدخّلات الخارجية.
الاحتماء بإسرائيل فعل غير منطقي اليوم، لكن المسؤول الأساس عن تسرب هذا الإحساس هو الخوف والشعور بعدم الحماية
اليوم، ومع اتساع فجوة الثقة بين المكوّنات السورية والنظام الحاكم، تبدو اللامركزية خياراً واقعياً أكثر من أي وقت مضى. فهي تتيح الحفاظ على خصوصيات كلّ مكوّن ضمن فسيفساء سورية غنية ومتنوّعة، بدلاً من الانجرار نحو مشاريع تقسيمية تهدّد وجود الدولة نفسها. إن إعادة دمج السوريين في مشروع وطني جامع تتطلّب عقداً اجتماعياً جديداً، يقوم على قبول الاختلاف تحت مظلّة الوطن الواحد، ويؤسّس لمرحلة من التعايش بدلاً من الحروب والانقسامات. وحدها اللامركزية، في إطار الدولة الواحدة، قادرة على إعادة بناء الثقة والوحدة الوطنية، وضمان مستقبل لسورية دولة موحّدة وقوية. فهل يمكن لحكومة دمشق الآن، القيام بخطوة سريعة تحفظ خلالها البلد من الانقسام، وتقطع الطريق على إسرائيل التي تتذّرع بالتدخّل لحماية الدروز، بينما هي تستمتع بتوسيع حدودها، وبإضافة مزيد من المكاسب الجغرافية التي تلتحق بحلمها، ذاك الحلم المرسوم في الخرائط التوراتية، بامتداد حدود إسرائيل من الفرات إلى النيل؟