Skip to main content
شيرين والأربعاء الحزين
بسمة النسور
فنانان يرسمان جدارية لتكريم شيرين أبو عاقلة في خان يونس (14/5/2022/فرانس برس)

لم يكن صباحاً عادياً، أصحو فيه متكدّرة المزاج بسبب بقايا أحلام وكوابيس أنسى معظمها، ويظل أثرها عالقاً في رأسي، وأتغلب عليها تدريجياً، بمساعدة كمياتٍ من الكافيين كفيلة بإيقاظ حصان، بل كان صباح الأربعاء الأسود الحزين، حين انتشر نبأ اغتيال شيرين أبو عاقلة، تلك المرأة الجميلة الشجاعة الحرّة التي وطئت الموت بالموت، وتركت أمة بأكملها في حالةٍ من الذهول والسخط والقهر. هكذا بكل بساطة، وفي بث حي ومباشر، تنال يد الخسّة والغدر من روحها النبيلة، عن سبق إرادة وتصميم على مرأى العالم ومسمعه، العالم البارع في الشجب والتنديد والاستنكار، فيما أرواح الشهداء تتناثر كعصافير ذبيحة في مواجهة صهيونيٍّ عنصريٍّ مجرم، تجرّد من الأخلاق والحس الآدمي، وصال وجال في شوارع فلسطين وحاراتها ومخيماتها، يقنص أجمل من فيها، ويعترض الجنازات بغوغائية ووحشية وانحطاط. في صبيحة ذلك الأربعاء الأسود، مات العدل، لفظ أنفاسه الأخيرة، خرّ صريعا، سقط مضرّجا بأوهامه، منكفئا على فكرته، مجاورا جسد شيرين المكوّم في ظل شجرة وارفة بما يكفي على أطراف مخيم جنين، وقد غادرنا، إلى غير رجعة، صوتها الدافئ الحزين، وهي تقول "كانت معكم شيرين من فلسطين المحتلة".
أي يوم مظلم مروّع هذا؟! أي شعور قاهر بالعجز المطلق، وأي غضبٍ يكتسح الروح ويعتقلها رهينة الحزن والأسى، ونحن نتابع كاميرات العالم تبثّ تفاصيل الاغتيال الآثم الذي نهب، في لحظة خاطفة جائرة، الصحافية الفذّة، المتفانية في حب وطنها، المخلصة في أداء مهام وظيفتها الصعبة، الطامحة للحياة الحرّة الكريمة، المعتنقة، بكل جوارحها، قضية بلادها، الرافضة تحييد مشاعرها، حين الحديث عن جرائم المحتل الغاصب، المتطلعة إلى غدٍ أقلّ قسوة، النزيهة النظيفة المحترمة الطيبة الحنونة، كما وصفها كل من عرفها عن قرب، مؤكّدين صورتها في أذهان الجماهير العربية التي طالما ترقبت ظهورها بوجهٍ خال من المساحيق، وصوت يختزن الألم كله، وهي تبثّ لهم، من قلب الميدان، أنباء الوطن المسروق ومعاناة أبناء شعبه في مقارعة احتلالٍ نازي بغيض غاشم، في ظل خذلان عالمي رسمي، ما زال سادراً، وقد رضي بعاره حليفاً لقوى الظلام الكريهة المتواطئة ضد شعبٍ أعزل، ذنبه الوحيد أنّه يسعى إلى الخلاص والتحرّر.
كانت شيرين الابنة البارّة لهذا الشعب المغدور على غير صعيد، ظلت صوته وصورته الحقيقية المشرقة. لذلك كان عليهم إسكاتها لأنها فضيحتهم الكبرى. أدمى رحيلها القلوب، بكتها عيون الرجال قبل النساء، قالت أم أحمد فريحات، سيدة من مخيم جنين، "بقدرش أحكي إشي، أجاني الخبر مثل الصاعقة، والله انجنيت عليها، الله يرحمها .. خاضت شيرين معركة جنين من أول يوم، وكانت بين الأنقاض تبحث عن الشهداء. كانت بقربي في الاجتياح تساعدني في البحث عن أبنائي، لم نجد قنينة ماء نسقيها". هتفت أم أحمد من عمق تفجعها محدقة في عين الكاميرا "من جنين الأبية، طلعت شمعة مضوية، قولوا الله، قولوا الله، هي شيرين مش حيالله". وقالت زميلة لها "شيرين كانت عاشقة لفلسطين، لا تعرف الراحة ولا تتذمر، حتى لو أيقظوها في منتصف الليل، تنهض لتؤدي واجبها بكل حماسة وشغف، مستمتعة باستفزاز العدو وكشف جرائمه الدنيئة بحق شعب فلسطين".
غاب وجه شيرين وتوارى صوتها، وستبقى حكاية رحيلها الملحمية المفجعة الصادمة المدويّة ماثلة في القلوب. ولعلها كفيلة بايقاظ ضمائر (على فرض وجودها) عرب مطبّعين تنكّروا للدم الفلسطيني، ولعذابات شعب مقهور، ووضعوا أيديهم المتخاذلة في يد المحتل الملطخة بدماء الشرفاء.
الرحمة والمجد والرضى والنور تحفّ بروحك يا شيرين، أيتها "الشمعة المضوية"، وأنت تواصلين التحليق في عليائك حرّة بهية، مهما جحد الجاحدون.