شهداء ربع الساعة الأخير
كان يصل إليّ الردُّ نفسه من جميع من أعرفهم، أنهم لم يستطيعوا النوم في الليلة الأخيرة قبل صباح إعلان دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في غزّة، بسبب شعورهم بالخوف والقلق، ولم أتوقف لحظة عن تكرار توصيتي لهم بأن يحافظوا على أنفسهم حتى الدقيقة الأخيرة.
لم تمرّ بي أيام وشهور مثل التي مرّت بي خلال هذه المقتلة التي بلغت 470 يوماً، فقد كانت الليالي قطعاً متواصلة من العذاب بسبب النوم المتقطّع، وحين كنتُ في غزّة، ومتنقلة بين أماكن نزوح مختلفة، لم أكن أعرف النوم بسبب القصف المحيط، والموت المُحدِق بي وبعائلتي، وكنّا نتكوّر حيثما حللنا في غرفة ضيقة، لكي نموت معاً كما تعاهدنا، أمّا حين أصبحت بعيداً فقد كانت كل ليلة قطعاً من العذاب أيضاً، واكتشفتُ أنني لم أنم ليلة نوماً متواصلاً على الإطلاق، بسبب خوفي وقلقي على أهل غزّة كبيراً وصغيراً، قريباً وبعيداً.
تأخّر الصباح الأخير في الوصول، وظلّ القلق سيد الموقف، وتعالت التحذيرات من أن يتسرّع الناس في الخروج والتجمهر، أو محاولة العودة إلى بيوتهم في رفح مثلاً، قبل أن يدخل قرار وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، ولكن ذلك لم يمنع أن الموت ظل سيّد المشهد حتى الدقائق الأخيرة، حيث سقط مزيدٌ من الضحايا الذين كانوا ينتظرون انتهاء الحرب بفارغ الصبر، والذين كانوا يحلمون ويتمنّون، وقد كتبوا رسائل لم يكونوا يعلمون أنها الأخيرة لأحبّتهم تعبّر عن انتظارهم المضني الذي طال، ويأملون أن ينتهي بنجاتهم، ولم يكونوا يعلمون أنه سينتهي بموتهم، وسوف يكونون شهداء اللقاء المنقطع، والفرحة التي لم تتم.
أوجعنا ذلك الموت في ربع الساعة الأخير قبل انتهاء الحرب، والذي يؤكّد الحقيقة التاريخية التي تحدُث دائماً، أن هذه الدقائق لا تعدّ، حسب حركة عقربي الساعة، ولكنها تعد بالأنفاس، ولك أن تتخيّل أن يتحوّل عقربا الساعة إلى مسمّى جديد، هو الشهيق والزفير، لأن بين هاتين الحركتين هناك حياة قد تُفقد.
في عام 1962، وحين كان مقرّراً أن يسري قرار وقف إطلاق النار مع توقيع اتفاقيات "إيفيان"، ابتداء من الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم التاسع عشر من مارس/ آذار من ذلك العام، كان الضابط في جيش التحرير الجزائري الملقب "سي مناد" الشهيد الأخير قبل ربع ساعة من دخول قرار وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، وحيث حمل اللقب الذي يقال بالفرنسية "شهيد ربع الساعة الأخير"، وحيث اشتبك مع الجنود الفرنسيين، حين تسرّبت معلومة إلى العسكر الفرنسي عن مكان وجوده مع رفاقه المقاومين، فهاجمت كتيبة بقيادة قبطان خيمتهم، ما أدّى إلى مقتله مع رفاق ثلاثة، وقد أعلنت وقتها الساعة الثانية عشرة ظهراً، ما حدا بالقبطان الفرنسي أن يقدّم التحية العسكرية للشهداء، وأمر بإعادة السلاح إلى جثامينهم.
في ربع الساعة الأخير من اليوم الذي أعلن فيه عن إتمام "اتفاقية أوسلو"، كان الشباب المتحمّسون في مدينة خانيونس يكتبون الشعارات الوطنية على جدران البيوت، وقبل ذلك التاريخ من عام 1993 كان أبي يحرص على مسح الشعارات عن جدران بيتنا، لأنه ظلّ حريصاً على أن يبقى تلميذاً مطيعاً ومسالماً، ولا يهمّه سوى متابعة دروسه، والحصول على أعلى الدرجات، وإن كان يحتفظ بآرائه السياسية وتشجيعه للمقاومة سرّاً، ولكنه كان يخاف على إخوتي الفتية، وقد تلكأ عن مسح الشعارات الأخيرة، ما أدّى إلى أن يدفع غرامة مالية كبيرة للجنود الذين رأوا الشعارات على جدران بيتنا في جولةٍ أخيرةٍ لهم أيضاً، ولم يكتفوا بذلك، بل صوّروا أبي وهو يمسحها بيديه، حتى تشقّقتا وسال منهما الدم، بناءً على طلب الجنود، وقد كان مرتدياً بدلته الأنيقة، وكأنهم يريدون أن يوصلوا إليه رسالة عن الدقائق الأخيرة التي قد تُغيّر كثيراً في حياة أي إنسان.