شكراً محمود عبّاس

شكراً محمود عبّاس

26 فبراير 2022
+ الخط -

قد يستحقّ رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وحركة فتح، محمود عبّاس، الشكر مستقبلا، على اعتباره ممثلا لفريقه الاستسلامي السلطوي والفتحاوي، وعليه، الشكر والنقد المتضمنان في هذه المقالة يستهدفان مجمل هذا الفريق من دون أي استثناء. في كل الأحوال، يعتمد الشكر على نتائج قرارات عبّاس المستقبلية، والتي لا تصبّ في مجملها في صالح قضية التحرّر الفلسطيني، لكنها تساهم، إلى حد كبير، في طي صفحة النهج الاستسلامي والتنازلي التي تأخرنا كثيرا في طيها. إذ يبدو رئيس السلطة عازما على سد شتى الطرق الساعية إلى إحياء المسار التنازلي ومؤسساته التي أفرزها، وتلك التي أفرزته، خصوصا بعد قراره أخيرا، "إلحاق منظمة التحرير ومؤسساتها ودوائرها بدولة فلسطين"، فللقرار أوجه ومعان كثيرة ودلالات ونتائج سلبية يصعب حصرها، لكنه قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، على اعتبارها قضية تحرّر وطني على قاعدة وحدة الأرض والشعب والقضية.

من ناحية أولى، يسهل تفنيد شرعية القرار، لكن يستحيل تعطيله، على الرغم من عدم شرعيته، لكونه قرار الأمر الواقع، وهي القاعدة التي حاول عبّاس كثيرا تثبيتها على امتداد سنوات حكمه؛ ربما قبلها أيضا؛ إذ يدرك عبّاس مكامن القوة التي يمتلكها، من تحكّمه بمالية منظمة التحرير وطبعا السلطة الوطنية، إلى امتلاكه الشرعية الخارجية المستمدّة من التزامه المطلق بمصالح الولايات المتحدة ومصالح الاحتلال الصهيوني. إذ يكتسب عبّاس شرعيته الخارجية من تكريسه دور السلطة الوظيفي، خصوصا أمنيا، وعبر تجاوبه مع الطروحات الأميركية والصهيونية التي تحرف القضية وتدخلها في متاهات عديدة، كما في مسار السلام الاقتصادي.

يكتسب عبّاس شرعيته الخارجية من تكريسه دور السلطة الوظيفي

وعليه، ينسجم القرار مع فكر عبّاس ورؤيته الداخلية والخارجية، حيث لا يخفي عبّاس إيمانه بضرورة خضوع الضعيف للقوي، وهو ما يطبقه حرفيا بخضوعه لمنطق القوة الصهيونية سياسيا وميدانيا، لذا يتجنّب عباس الدخول في أي مواجهةٍ مع الاحتلال الصهيوني، حتى لو كانت مجرّد مواجهة سياسية أو إعلامية، بل حتى عندما يجبر على مواجهة التعسّف الصهيوني نجده يسارع الخطى، كي ينهي المواجهة تحت أي ذريعة، كما حصل بما يخصّ أموال المقاصّة والأسرى، وغيرها كثير من القضايا والملفات الأخرى. وعليه، لا يناقض عبّاس ذاته بهذا القرار، فهو يعتقد أنه الطرف الأقوى فلسطينيا، وبالتحديد ماليا وخارجيا، لذا يؤمن بضرورة خضوع بقية الأطراف الفلسطينية؛ ربما باستثناء حركة حماس؛ لقراراته الفردية الاستبدادية، والأهم لقراراته الكارثية. وهنا يمكن تلمّس جذر الخلاف العباسي أو الفتحاوي مع "حماس"، فالرجل، ممثلا عن فريقه السلطوي والفتحاوي، لا يكترث بشرعية الشارع الفلسطيني. وعليه، لا يهتم بمنافسة "حماس" على هذه الشرعية. في المقابل، يدرك مكامن قوة "حماس" المالية وإمكانية انتزاعها مكانته الخارجية، إن مضت الحركة في مسار التنازل وتمثيل مصالح الاحتلال الصهيوني والولايات المتحدة، وهو ما تتوفر بعض المعطيات عليه. إذ على الرغم من التنازلات العديدة التي قدمتها "حماس" من أجل نيل شرعية خارجية، إلا أنها لم تُقدم على تقديم ما قدّمه عباس ربما نتيجة تخوفها من ردة الفعل الشعبي، أو ربما نتيجة تخوفها من تأثير هذه القرارات على وحدة الحركة، وهو الاحتمال الأرجح برأي الكاتب. لذا تخطو الحركة خطواتٍ متردّدة بين التحرر والاستسلام، من قبيل تمسّكها بالحق في مقاومة الاحتلال، على التوازي مع تعديلها برنامجها السياسي، وقبولها التفاوض غير المباشر مع الصهيونية وفق مسار يكرس رؤية السلام الاقتصادي الذي لا يمتّ بأي صلة لبرنامج التحرير.

تعنّت عبّاس وتفرّده واستعلاؤه قد يصبّ في صالح حركة التحرر الفلسطينية على المديين، المتوسط والبعيد

ومن ناحية ثانية، يطوي قرار عبّاس صفحة إصلاح منظمة التحرير، ويعتبر القرار ردا صريحا وفجّا على جميع الأصوات التي دعته إلى إصلاح المنظمة، فالقرار، وبكل وضوح، يُخضع المنظمة، من ناحية قانونية (غير شرعية لكن قانونية)؛ للسلطة الوطنية، وهو ما يكرّس تبعية المنظمة للسلطة، فسابقا كانت المنظمة خاضعة ماليا وسياسيا للسلطة، في حين كانت تخضع السلطة للمنظمة قانونيا. وعليه، يؤثر إخضاع المنظمة للسلطة قانونيا على عدة مستويات، قد يكون أخطرها تقزيم المنظمة من منظمة مجمل الشعب الفلسطيني إلى منظمة جزء من شعب فلسطين. وكذلك يجعل القرار إصلاح مؤسسات السلطة وتحديثها أولوية (أو الدولة كما يحلو لعبّاس وصفها) على إصلاح المنظمة؛ إن جرت طبعا. وبالتالي، تقتضي الأولوية تنظيم انتخابات سلطوية تشريعية ورئاسية حين تسمح الظروف، وجميعا نعلم أن الظروف لن تسمح أبدا، فالاحتلال الصهيوني لن يسمح بإجرائها في القدس، مهما طال الزمن، وعباس يرفضها من دون القدس، وعليه فلا انتخابات السلطة، وطبعا لا انتخابات لنظيرتها منظمة التحرير. كما يعبر القرار على تهميش اعتبارات الفلسطينيين وحاجاتهم خارج مناطق السلطة، بغض النظر عن أماكن وجودهم داخل فلسطين أو خارجها. أي أنهى القرار أحلام الإصلاح الذي تصر عليه مجمل الفصائل والقوى السياسية وغالبية المبادرات النخبوية، كما أنهى القرار أحلام توسعة منظمة التحرير وتطوير هياكلها التمثيلية، إلا لمن خضع لمشيئة عباس وقراراته من دون أي جدال أو مناورة، مهما صغر حجمها.

لكن وعلى الرغم من كل المعاني السلبية التي عكسها القرار أو يعكسها، إلا أن تعنّت عبّاس وتفرّده واستعلاءه قد يصبّ في صالح حركة التحرّر الفلسطينية على المديين، المتوسط والبعيد، وذلك نظرا إلى دور القرار في إنهاء أوهام الحلول الوسط والترقيعية، التي لا تتناول معالجة جوهر مشكلة الجسم السياسي الفلسطيني، التي يقتضي حلها إعادة القضية الفلسطينية إلى سياقها التاريخي والوطني والشرعي الأساسي، على اعتبارها قضية تحرّر من نظام استعماري إحلالي قائم على التمييز العنصري، ويمارس تطهيرا عرقيا بحق شعب فلسطين وأرضها. وعليه، قد يساهم القرار العباسي، وربما القرارات المقبلة، في صبّ جل الجهود الفلسطينية الوطنية على استعادة المسار التحرّري، وفق رؤية تحرّرية وتقدمية وإنسانية، كالتي انطلقت منها حركة التحرر الوطني العربية والفلسطينية، عندما تبنّت مشروع تحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة دولة لجميع مواطنيها الأصليين، ولسكانها الحاليين المتحرّرين من عنصرية الفكر الصهيوني وإجراميته، فعودة التلاحم بين برنامج الجسم السياسي الفلسطيني وبرنامج المقاومة الشعبية الفلسطينية، المقاومة المتجدّدة دائما داخل فلسطين وخارجها، بل وفي كل بقعةٍ من أرض فلسطين التاريخية كما تجلى في انتفاضة كل فلسطين أخيرا، هي الخطوة الأولى والأهم في بناء جسم سياسي فلسطيني يعكس طموح شعب فلسطين ورغبته، على أن تتبعها خطوات ضرورية، من أجل دمقرطة هذا الجسم عبر إخضاعها لإرادة شعب فلسطين وقراره وسلطته لا العكس.

75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.